موقف الجزائر من اعتذار مستعمرها السابق
بقلم ربيع الحصباني
الخبر
يبقى الاستعمار الفرنسي للجزائر جرحًا لم يُختَم في ذاكرة التاريخ الفرنسي على الرغم من أنّه انتهى منذ أكثر من 50 عامًا. وهو يعتبر حقبة مظلمة في تاريخ الشعب الفرنسي. وعلى الرغم من أنّ قلّة من الزعماء الفرنسيين كانوا على استعداد للاعتراف بتاريخ فرنسا الوحشي بحقّ الجزائريين، رفض معظمهم الاعتراف بالماضي، ناهيك عن تقديم اعتذار عمّا ارتُكب من فظائع.
غير أنّه في خطوة جريئة وغير مسبوقة، اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بيان صدر مؤخرًا بمسؤولية السلطات الفرنسية عن تعذيب موريس أودين، وهو عالم رياضي ومؤيد للحركة الوطنية الجزائرية (جبهة التحرير الوطنية). اختفى أودين بعد اعتقاله من قبل الجيش الفرنسي في عام 1957، خلال معركة الجزائر الدامية من أجل تحقيق الاستقلال.
جاء في البيان الصادر عن قصر الإليزيه “إنّ تعذيب أودين هو حالة محددة، لكنه يمثّل نظامًا قاسيًا تم وضعه على مستوى الدولة.” لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقرّ فيها ماكرون بقسوة النظام الاستعماري الفرنسي. في زيارة سابقة للجزائر، أثناء الحملة الرئاسية في العام الماضي، أشار ماكرون إلى الاستعمار الفرنسي على أنّه “جريمة ضدّ الإنسانية”، وهي ملاحظة أعادت إشعال النقاش الوطني المرير.
التحليل
قال بنجامين ستورا، وهو مؤرخ فرنسي بارز في الجزائر، إنّ اعتراف ماكرون يمثل تحركًا بعيدًا عن موقف “صمت الأب” الذي ميّز علاقة فرنسا بماضيها الاستعماري منذ عقود. وأضاف “إنّه يسمح لنا بالتقدم للخروج من الإنكار والتقدم لأجل الحقيقة”.
بالنسبة لياسر اللواتي، أحد منظمي الجاليات المسلمة وناشط الملحوظ ضد الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام) في فرنسا، إنّ تصريح ماكرون “لحظة تاريخية”، لكنه ليس كافيًا. وقال اللواتي “علينا أيضًا التعامل مع مخلّفات العصر الاستعماري”. يضمّ الجيل الخامس أو السادس من الفرنسيين الجزائريين العديد من الشبان المرتبكين، غير المتأكدين من مكانهم في فرنسا والعالم الأوسع. النظام المدرسي لا يعلّمهم عن الحرب سوى من منطلق حيادي، ولا يُحاكي التجربة الشخصية الحقيقية بما في ذلك صدمة المنفى والتهجير. وهذا ما قد جعلهم منزعجين وغاضبين في كثير من الأحيان وعلى خلاف مع عائلاتهم وهم يتساءلون عن سبب قدومهم إلى فرنسا في المقام الأول. فمن هذا المنطلق، إنّ الحرب الجزائرية وما ترتّب عليها من عواقب تبقى مسألة عالقة مع فرنسا.
التأملات اللاهوتية والإرسالية
الرسالة إلى فليمون هي دراسة حالة حول موضوع المغفرة، توضح علاقة الجاني والمُجنى عليه بظلّ ترميم العلاقة والتعويض. في هذه الرسالة، اللاعبين الرئيسين الثلاثة هم بولس وأنسيموس وفليمون. يقوم بولس بدور المدافع ويتحمل مسؤولية تيسير المصالحة بين أنسيموس وفليمون. يتحمّل أنسيموس، الجاني، مسؤولية مواجهة مخالفات ماضيه، والاعتراف، والتعويض. أنسيموس مذنب بارتكاب جريمة يعاقب عليها بالإعدام في تلك الأيام، لكونه عبدًا هاربًا. لقد حفّزته محبة بولس بأن يتوسط له. فبولس وضع حقوقه جانبًا وأصبح بديلًا عن أنسيموس وتحمّل ديونه. فليمون، من جانبه، واجه دينه لبولس ولله، وكان من متوقَّع منه أن يمارس المحبة والغفران تجاه أنسيموس. وعلاوةً على ذلك يناشد بولس فليمون أن يُعيد أنسيموس كأكثر من مجرّد عبد:
ولعلَ أونِسيمُوسَ اَبتَعَدَ عَنكَ بَعضَ الوَقتِ ليَعودَ إلَيكَ للأبَدِ، لا ليَكونَ عَبدًا بَعدَ اليومِ، بَل أفضَلَ مِنْ عَبدٍ، أي أخًا حبيبًا في المَسيحِ… فإنْ كُنتَ تَحسَبُني شَريكًا لَكَ في الإيمانِ، فاَقبَلْهُ كما تَقبَلُني. (فليمون 15-17)
في هذه القصّة، يمكننا أن نرى أنّه على الرغم من أنّ فليمون كان مدينًا لبولس ولله، يتحمل بولس مسؤولية التعويض عن مخالفات أنسيموس. إن عمل بولس له طابع تصالحي وهو ضروري لتكميل اعتذار أنسيموس لسيده السابق. ثمة عنصر آخر مطلوب في هذه العملية هو موقف وعمل النعمة الذي قام به فليمون والذي أعاد أنسيموس ورحّب به مرة أخرى في علاقة جديدة كليًا، كأخ.
هذا ما يقودنا إلى السؤال: كيف يمكن للكنيسة الجزائرية أن تتقبّل الاعتذار، محافظةً على وجهة نظر نقدية؟ وماذا يجب أن يكون موقف الكنيسة تجاه الماضي الاستعماري؟
من المهم للكنيسة الجزائرية أن يكون لها موقف النعمة، تتقبّل الاعتذار الفرنسي وتسعى لمسامحة الشعب الفرنسي. غير أنّ العدالة تتطلب معالجة الجروح القديمة التي ما زال الجزائريون والجزائريون الفرنسيون يعانونها. يجب على الكنيسة ألا تنكر وحشية السلطة الاستعمارية وأن تعترف بمعاناة أولئك الذين فقدوا منازلهم، ومستقبلهم، وأحباءهم، أو ربما أجزاء من أجسادهم.
يكتب كامل داوود، وهو روائي جزائري، في مقاله “ماذا تفعل عندما يعتذر المستعمر؟“:
إنّ هذا الاعتراف الرسمي من قبل الدولة الفرنسية يبدو دراماتيكيًا وشجاعًا، وقد يمهد الطريق أمام إعادة النظر في الحقبة التاريخية التي أنكرها البعض وزيّنها آخرون. لكن لا يسعني إلّا أن أسأل: ما الفائدة بالنسبة لي كجزائري مولود بعد الحرب؟
ربما يمكن أن تبدأ دروس التاريخ في مدارس فرنسا بتعليم الحرب من حيث آثار الحرب ونتائجها على الشعب الجزائري. أما بالنسبة للكنيسة الجزائرية، فيمكنها قبول الاعتراف بنعمة، ولكن تظل صامدة في دعوتها إلى العدالة تجاه أولئك الذين ما زالوا يعانون الألم والجراح العميقة من الماضي القريب.