السلام هَشٌّ: في أوقات السلم، علينا أن نتبنّى سياسات الحوار وبناء السلام والعدالة الاقتصادية من أجل الخير العام

بقلم مرتان عقّاد

 

الخبر

مع إعلان إدارة ترامب بداية سحب قوّاتها ومعدّاتها العسكرية من سوريا في 11 كانون الثاني/ يناير، يشعر العديد من أهالي المناطق التي عانت على أيدي داعش بأنّهم قد تعرّضوا للخيانة (كما يشير مقال ١٣ كانون الثاني/يناير في مجلة “الإيكونوميست”). في منتصف كانون الأول/ديسمبر 2018، وقّع الرئيس ترامب على “قانون الإغاثة والمساءلة عن الإبادة الجماعية في العراق وسوريا،” ما شكّل لحظة انتصار لعدة مجموعات ضغط تعمل من أجل حماية الأقليات في مناطق النزاع في العراق وسوريا. كان من شأن ذلك أن يساعد في إعادة توطين مجتمعات الأقليات في هذه المناطق المعزولة. غير أنّ الانسحاب الأميركي قد يحجب إمكانيّة تنفيذ القانون الجديد على الأرض. “قد يفتح هذا الانسحاب أبواب الجحيم،” يقول أحد رجال الدين في كنيسة المشرق الأشورية، كما جاء في مقالة الإيكونوميست. من شأن هذا القرار أن يعكس الاتجاهات على الأرض مرة أخرى لصالح داعش.

التحليل

في تحليلات أجرتها مؤخرًا الباحثة منى علمي (زميلة غير مقيمة في المجلس الأطلنطي)، تحت عنوان “تنظيم الدولة الإسلامية حيّ يُرزَق،” نشرها موقع كارنيغي على الإنترنت، إنّ الحقائق على الأرض في العراق وسوريا تُظْهِر بوضوح أنّ داعش بعيد عن الوقوع في الهزيمة. وحتّى في الوقت الذي يتم فيه عزلهم من معاقلهم الهامة، تستمر الخلايا النائمة في العمل، منفّذةً الهجمات اليوميّة. “في 13 كانون الأول/ديسمبر، كتب الموقع الإخباري الكردي ’روداو‘ أنّه في غضون شهر واحد فقط، شنّت الدولة الإسلامية أكثر من 143 هجومًا على قرى واقعة في منطقة خانقين العراقية المتنازع عليها، ما أرغم السكّان على مغادرة منازلهم.”

في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز في 16 كانون الثاني/يناير 2019، تمّ الاستشهاد بالباحث في شؤون حركة داعش، حسن حسن، بأنّ “هناك العديد من الخلايا النائمة للدولة الإسلامية منتشرة في أنحاء مختلفة من سوريا والعراق، وكذلك في تركيا وأماكن أخرى. ووصف التدخّل الأميركي ووجوده بأهم عامل في زوال الدولة الإسلامية، مضيفًا بأنّ الانسحاب السريع لقوات الولايات المتحدة قد يسمح للجهاديين بالارتداد وربّما استعادة ما يصل إلى 50٪ من أراضيهم السابقة.”

الخواطر اللاهوتيّة

لا حلول سهلة لمناهضة ميول الجماعات الجهادية العنيفة. قد يكون التصدي لهذا العنف بالقوة هو الخيار الوحيد على المدى القصير، لكن من الواضح أنّه ليس حلاًّ طويل الأمد. إنّ خطر استخدام القوة لإخماد العنف الجهادي هو أنّه يعطي إحساسًا زائفًا بالأمان طالما أنّه يمكن الحفاظ على الوضع السلمي. فيسهل على الناس عندها أن ينسوا أهمية العمل على الحلول الطويلة الأمد في أوقات السلم.

والواقع إنّ فكرة السلام الدائم هي وَهْم. فيخبرنا الكتاب المقدس أن هذا لن يحدث أبداً. “ولمّا اقترَبَ مِن أورُشَليم نظر (المسيح) إلى المدينة،” يُخبِرُنا لوقا، “وبكى عليها، وقال: ’ليتَكِ عرَفْتِ اليومَ طريقَ السلام! ولكنّه الآن مَحجوبٌ عن عينَيْكِ‘” (لوقا ١٩: ٤١-٤٢). على الرغم من أنّ الله يزوّدنا بسبيلٍ للسلام، فنحن كبشر نعتمي عنه لأنّنا مفتونون بغرورنا وبمصالحنا الوطنية الذاتيّة.

يجب على جماعة الكنيسة، التي أنشأها رئيس السلام، أن تتعلّم العيش في خضمّ العنف وعدم الاستقرار، فهما نمط العيش المعتاد في عالمنا. المسيح، في الواقع، يزوّدنا بما نحتاجه لاستقبال السلام وتقديمه لمن حولنا. نحن مدعوون إلى “التغلب على العالم” وعلى عنف العالم بانتصار ربّنا على العالم (يوحنا 16: 33). فنتشجّع بوعد المسيح: “سلامًا أَترُك لكم، وسلامي أعطيكم، لا كما يُعطيه العالَم أُعطيكُم أنا. فلا تَضْطَرِب قلوبُكُم ولا تَفْزَع” (يوحنا 14: 27).

التأملات الإرسالية

وبالتالي، نحن مدعوون لتعزيز السلام في خضمّ العنف. وعندما تحلّ أوقات السِلْم النادرة على عالمِنا، نحتاج إلى بذل كل جهد لبناء أطر للحوار الذي يجمع بين الناس والله، وبين الناس فيما بينهم، فنعمل من أجل الخير العام في مجتمعاتنا. تُعلِّمُنا قصة يوسف في كتب التوراة أنّ الله لا يحجب عن شعبه معرفة المِحَن القادمة عندما يجد بينهم عبدًا يتحلّى بالرؤية والرغبة على الاستجابة لحركة روحه القدّوس لمصلحة جميع الناس. من خلال إعلان خاص وإرشاد إلهي وحكمة مقدّسة، استطاع يوسف من الاستفادة من سبع سنوات من الازدهار في الأرض لاستباق سبع سنوات من المجاعة ومواجهتها.

وبالمثل، كان السلم الروماني (الـPax Romana) ظاهرة اجتماعية وسياسية مهمة سمحت بتأسيس رسالة الإنجيل وتعزيزها من خلال جماعة المسيح في القرن الأول من عصرنا. علينا أن نصلّي من أجل السلام والاستقرار وأن نعمل من أجل ذلك، ونحن نبحث عن سبُلٍ جديدة للإنجيل في عالمنا.

أوقات السلام ثمينة ويجب ألاّ تُؤخَذ كأمر مُسَلَّم به. من السهل انتقاد مبادرات بناء السلام أو الحوار باعتبارها مبادرات غير ضرورية أو خارجة عن “جوهر الإنجيل” في أوقات السلم النسبي. من دون التقليل من أهمية الشهادة الشخصية التي ندعو من خلالها الناس إلى المسيح، يواصل معهد دراسات الشرق الأوسط عمله باتخاذ خطوات مهمة لتعزيز العدالة والحوار والتعاون بين مختلف الجماعات من أجل الخير العام. فبدون مقاربة شاملة لدعوة الكنيسة إلى تعزيز إرساليّة الله في العالم سنلحق الضرر بإنجيل السلام وبرئيس السلام.