بقلم الياس غزال
أودت الحرب المتعمدة ضد اليمن بحياة أكثر من 10،000 شخص وشرّدت الملايين. والوضع على أرض الواقع لهو مروِّع. وثمة أكثر من 1.2 مليون حالة مشتبه بها أنّها مُصابة بوباء الكوليرا المشتبه بها منذ أبريل / نيسان 2017 – وهي واحدة من أسوأ حالات تفشي الأوبئة في التاريخ الحديث. شلل الأطفال، وهو مرضٌ يمكن الوقاية منه بسهولة وكان يُعتقد أنه استُؤصل من الجنس البشري، عاد ليضرب اليمن. ناهيك عن الحصار المفروض على اليمن والذي يُعرِّض أكثر من خمسة ملايين طفل لخطر الموت جوعًا. إذا لم يتغيّر أيّ أمر بحلول نهاية العام، فسوف يواجه 10 ملايين شخص المصير نفسه. هذا وثمة ناس يأكلون أوراق الشجر المغلية للبقاء على قيد الحياة!
وهل من قلب لا يرتعش حين يرى صور المعاناة في اليمن؟ ومن يستطيع أن يسمع عن هذه الفظائع المرتكبة بحقّ المدنيين دون أن ينتابه الغضب؟ للفصائل المتحاربة أسبابها الخاصة للقتال، لكن ألا يفقد مرتكبو الجرائم بحقّ الأطفال الأبرياء أي مبررّ لأي شيء يقاتلون من أجله (1/5 من الضحايا هم ما دون الـ18 سنة)؟ والأهم من ذلك، ما الذي يجب فعله حيال الحكّام المستبدين العنيفين؟
أعتقد أن هذا هو الموقف نفسه الذي كان لدى القوم الذين جاءوا إلى يسوع وأخبروه عن الجليليّين الذين قتلهم بـيلاطُس في الهيكل ومزج دماءهم بدماء ذبائحهم (لوقا 13: 1). ارتكب بيلاطس، الحاكم اليهودية الروماني، عملاً همجياً نجسَا حين ذبح أشخاصًا عشوائيين كانوا على ما يبدو يمارسون حقّهم في العبادة. بالطبع، لا يمكننا أن نتيقن من براءة الضحايا، ولكن عدم ذكر أسمائهم والتحديد بأنّهم من محيط فلسطين قد يشير إلى أمر ما، وهو أنّهم غير مهمين وغير مؤذيين.
على الرغم من ذلك، كان يمكن لهذا الحدث أن يُشعِل انتفاضةً ضدّ الرومان – فقط لو أنّ يسوع جيّش حشد الآلاف الذين تجمعوا لسماعه (لوقا 12: 1). هذه فرصة للانتقام لموت الأبرياء، عزل النظام الروماني المستبد، ووضع حدّ لمعاناة اليهود – فقط لو أنّ يسوع زعم دور المسيّا الذي توقعه منه الناس.
بدا ردّ يسوع على هذه التحريضات سافهًا في البداية حين قال: “أتظُنُّونَ أنَّ خَطيئَةَ هَؤلاءِ الجَليليِّينَ أكثرُ مِنْ خَطيئَةِ سائِرِ الجَليليِّينَ حتى نَزَلَت بِهِم هذِهِ المُصيبَةُ؟ أقولُ لكُم: لا، وإنْ كُنتُم لا تَتوبونَ، فستَهلكونَ كُلُّكُم مِثلَهُم. وأُولئِكَ الثمانِـيَةَ عشَرَ الذينَ سَقَطَ البُرجُ علَيهِم في سِلوامَ وقتَلَهُم، أتَظنونَ أنَّهُم أذنَبوا أكثَرَ مِمّا أذنَبَ أهلُ أُورُشليمَ؟ أقولُ لكُم: لا، وإنْ كُنتُم لا تَتوبونَ، فستَهلكونَ كُلُّكُم مِثلَهُم” (لوقا 13: 2-5).
في الآيات السابقة، يدور السياق حول الإنجيل الذي يسبب الانقسام بين الناس، وليس السلام، والحاجة إلى الاعتراف بذلك واتخاذ طرفٍ في النزاع. لكن أيّ طرف؟ إذا ارتكبت جناية ضد خصمك ورفع دعوى قضائية ضدك، فهل ستحاول تسوية الأمر خارج المحكمة، أم تنتظر حكم القاضي؟ علّم يسوع سامعيه أن يتبعوا المنطق نفسه في تحديد الطرف الذي سيختارونه.
ولكن، ماذا عن بيلاطس المتحجر القلب وأعوانه؟ كيف يمكن أن يتفاوض الناس على تسوية مع نظام وحشي كهذا؟ الأشخاص الذين أبلغوا عن التعدّي على الجليليين ربما أرادوا من يسوع أن يثور ضد بيلاطس لأنّهم لم يستطيعوا تقبّل التصالح معه. لا يمكنهم التفكير في بيلاطس من دون تذكر أفعاله الشنيعة. مثل الكثير من الناس الذين يعانون في ظلّ الأنظمة المستبدة اليوم، ويجدون صعوبة في مسامحة الطغاة.
استجابة يسوع مفيدة وبنّاءة بطرقٍ عديدة. أولاً، يؤكّد يسوع أنّ الخطيئة ليست فكرة مجرّدة. الموت والألم في العالم هما نتيجة الخطيئة بغض النظر عن كيفية حدوثها. أي أنّ الخطيئة هي أصل كلّ شرّ واعتداء. والأهم من ذلك، الخطيئة هي قضية شخصية. فالجميع قد أُصيب بها، وبالتالي فإنّ الجميع يتحمل مسؤولية التعامل معها. قبل إدانة بيلاطس وأمثاله، على كلّ شخص أن يتوب عن خطاياه ويلتمس رحمة الله. من وجهة نظر الله، إنّه من الرياء أن نطالب بمعاقبة الخاطئ – بغض النظر عن شناعة الخطيئة – قبل أن نلقى الغفران لخطايانا.
ثانيًا، عندما يثور غضبنا على الظلم، لا ينبغي أن تكون استجابتنا مدفوعة بالغضب بل بالنعمة. الدافع الذي يكمن وراء أعمالنا مهم لأنّه يحدّد أين سنصل بأعمالنا وكيف نصل إلى ذلك. إذا كنّا مدفوعين بالغضب والشعور بالثأر، فستكون استجابتنا مجرِّدة للإنسانيّة ومدمِّرة للذات. وسوف تؤدّي إلى التركيز على حلول قصيرة أجل بتكاليف باهظة. من ناحية أخرى، فإنّ الاستجابة للظلم بدافع فهمٍ عميق لخطايانا وغفران الله لنا، سوف تفيض بالمحبة والتواضع. وهذا يساعدنا على عدم اعتبار الظلم تعدٍّ شخصي، بل تعدٍّ على مُلك الله.
هذا يؤدي إلى النقطة الثالثة. لله السيادة وهو يدين الظلم في حينه. صمت الله على الشر ليس علامة ضعف أو لامبالاة، بل صمته يعكس صبره ورحمته. لقد قال يسوع للقوم الذين أغضبهم ظلم بيلاطس بأنّ الله لا يقطع على الفور شجرة التين التي لا تُثمر. يعطيها فرصة لتُثمر، وإذا لم يحدث ذلك، فإنه سوف يقطعها. وبالمثل، يعطي الله الناس مزيدًا من الوقت للتوبة، لكن سيأتي وقت يُحاكم فيه جميع الناس أمام الله. الثقة بسيادة الله تساعدنا على تحمل الظلم.
غير أنّ السؤال المربك الذي لا يزال يتربص في خلفية نقاشنا هو: ماذا عن بيلاطس عصرنا؟ كيف يجب أن نستجيب للساسة العنيفين بعد أن ندرك خطيئتنا، نتوب عنها، ونثق بسيادة الله؟ أم أنّ يسوع يلمّح إلى أنّنا يجب أن نتنحّى عن النشاط السياسي؟
بعد إلقاء القبض عليه في بستان جثيماني، أُحضر يسوع أمام بيلاطس لاستجوابه. في مناسبات عدّة، يجادل بيلاطس يسوع محاولًا تبرئته من اتهامات اليهود. الغريب، أنّ بيلاطس كان مترددًا في إعدام يسوع. في الواقع، كان بيلاطس يعتقد أنّ يسوع بريء، ولكن لماذا يتعثر رجل ذائع الصيت بوحشيته وجرمه بإصدار حكم إعدام آخر؟
كلمات يسوع جعلت بيلاطس يتوقف ويتمعن في الموقف. أعتقد أنّه يمكننا تعلّم دروس من أحاديثهما حول كيفية التعامل مع بيلاطس في عالمنا. أولاً، لم يحاول يسوع التشكيك في سلطة بيلاطس أو نزع شرعية حكمه. في الواقع، أثبتهما، ولكن وضعهما في نصابهما الصحيح. قال يسوع لبيلاطس، “ما كانَ لكَ سُلطةِ عليَ، لَولا أنَّكَ نِلتَها مِنَ الله” (يوحنا 19: 11). يجب ألا ننسى أبدًا أن الله ملك على كلّ الأرض. قد نجد الأمر محيّرًا، لكن الطغاة لهم سلطة بإذن من الله.
ثانيًا، هذا لا يعني أنّنا يجب أن نغض الطرف عن عدوانهم. على العكس، يجب أن نسائل جميع القادة. قلة من الناس قد يخالفون ذلك، لكن النهج المسيحي مختلف. قال يسوع لبيلاطس، “ما مَملكَتي مِنْ هذا العالَمِ. لَو كانَت مَملكَتي مِنْ هذا العالم، لَدافَعَ عنِّي أتباعي حتى لا أُسلَمَ إلى اليَهودِ. لا! ما مَملكَتي مِنْ هُنا” (يوحنا 18: 36). في حين يميل الناس عمومًا إلى استخدام أي وسيلة لازمة، بما في ذلك العنف، لتحقيق غاياتهم السياسية، أتباع يسوع يتبعون نهجًا معاكسًا. إن تلاميذ يسوع يحكمهم ملكوت سماوي، ويجب أن ينعكس ذلك من خلال نشاطهم السياسي على الأرض. يقوم المسيحيون تطبيق نظام سماوي على نظام أرضي. إن اختلال المحاور بين نظامين يسبب الألم، ولكن يجب أن نتحمل ذلك إلى أن يسود النظام السماوي في نهاية المطاف عند عودة يسوع.
ثالثًا، هذه ليست دعوة إلى اللافعالية أو الهروب، بل دعوة إلى المواجهة المتواضعة. عندما تعجّب بيلاطس متسائلًا ما إذا كان يسوع ملكًا، قال يسوع، “أنتَ تَقولُ إنِّي مَلِكٌ. أنا وُلِدْتُ وجِئتُ إلى العالَمِ حتى أشهَدَ لِلحَقِّ. فمَنْ كانَ مِنْ أبناءِ الحَقِّ يَستَمِـعُ إلى صَوتي” (يوحنا 18: 37). من المدهش أنّه عندما يلخّص يسوع الغرض من تجسّده في جملة واحدة، يقول هذه الكلمات في آذان أعلى سلطة سياسية يمكن أن يلتقي بها. وهذا يؤكّد أهمية الشهادة للحقّ كشعار لكلّ مسيحي، ولا سيّما في الشؤون السياسية. يسوع هو الحق. إنّ إعلان حقّ الإنجيل في كلّ حالة ولكلّ شخص يجب أن يقود نشاطنا السياسي.
أخيرًا، لهذا تكلفة. يحب الناس الظلام لا النور لأن أفعالهم شريرة ولا يريدون أن يُظهر الحقّ شرّهم. على الرغم من براءته ونبل رسالته، عوقب يسوع بأشنع أشكال الموت. إن الشهادة للحق لن تؤدي دائمًا إلى الموت، ولكن أولئك الذين يتولون هذه الدعوة، ولا سيّما في السياقات العنيفة، يجب أن يكونوا على استعداد لدفع هذا الثمن. الخبر السار هو أن يسوع لم يبق ميتًا، وهذا سيكون للذين يموتون من أجل الحق، سيقومون بالحق ومع الحق.