بقلم مرتان عقّاد
شيخان وثلاثة آباء ولاهوتيّ إنجيلي يخرجون معًا من مسجد على قارعة الطريق في عصر يومٍ دافئ يداعبه النسيم العليل من شهر حزيران/يونيو. وإذا ببضع سياراتٍ تتباطأ ليحدّق ركّابها في هذا الوفد غير المألوف وهم يتهادون في مشيتهم أمام القبّة البهية لمسجد السيّدة عائشة بنت أبي بكر في مدينة صيدا جنوب لبنان. وفيما كان الغسق يحطّ رحاله على المدينة، توجّهوا نحو مائدة ٍ جمعتهم في منزلٍ مجاور، حيث أُعدّت لهم أطباق بسيطة استعدادًا لإفطار رمضان. تشاطروا على المائدة المحادثات بلياقة وطوروا خطة معًا بعنايةٍ واحترام متشاركين أفكارًا محفوفةً بالمجازفةِ والإبداع في آنٍ معًا حول مبادرة غير اعتيادية كانوا قد عملوا على إعدادها معًا لمدة عام تقريبًا. إنّها مبادرة مثيرة وفي الوقت نفسه تولّد التواضع في النفوس، وتوسّع تخوم الأذهان وفي الوقت نفس من المُحال مقاومتها. جميع نواقيس التحذير تدقّ كأجراس الميلاد في وجه مفاهيمنا الدينيّة المحدودة التي تدعو إلى الحصرية في وجه الانفتاح. كيف ستتفاعل جماعاتنا؟ هل سيوافق أساقفنا ومفتينا؟ هل ينتفض علينا هؤلاء الأكثر تطرّفًا في مجتمعَيْنا؟
المشهد الثاني يأخذنا بلمح البصر أربعة أشهر إلى الأمام. وفدٌ يضمّ اثني عشر زائرًا تقريبًا، بعضهم رجال ملتحون وبعضهم شباب في مقتبل العمر لم ينبت شعر على وجوههم بعد؛ ومعهم ما يوازيهم من النساء عددًا، بهامات تغاطيها مناديل مزركشة الألوان، دخلوا جميعهم كنيسة صيدا للروم الكاثوليك الملكيّين في يومٍ من أيّام الأحاد، على بعد مرمى حجرٍ من مسجد السيدة عائشة. وها هم يحدّقون في الأيقونسطاس الوافر الزخرفة مُحاطين بتراتيل تصدح بلحنٍ بيزنطي، فيما يطوف أب كاثوليكي، برفقة نظيرَيه الماروني والأرثوذكسي، زيّاح القدّاس الإلهي بقلبٍ واحد وسط جماعتهم المتنوعة بغير عادةٍ في ذلك الصباح. ويُمكنكم سماع رنين سلسلة المبخرة الجميل وهي تترنّح بين المقاعد، فتتصاعد منها رائحة البخور العبقة التي تملأ أرجاء القبّة الشاهقة فوقهم.
هذان مشهدان من مبادرة أخيرة لمعهد دراسات الشرق الأوسط في كلية اللاهوت المعمدانية العربية. مشهدان ناتجان عن حلمٍ غير مألوف راود مجموعة من الأصدقاء والقادة الدينيّين الذين تجرأوا على تصوّر ما يمكن أن ينتج عن تفعيل صداقتهم الطويلة الأمد على مستوى القاعدة الشعبيّة لجماعاتهم الدينية. كنائس ومساجد تتواصل مع بعضها البعض بروح الضيافة والمحبة. دون أن يدعوا للدمج أو يدّعوا عدم الاختلاف. بل صمموا أن يتركوا اختلافاتهم جانبًا للتشارك بسخاء، والتعاون بمحبة، بغية تحقيق الخير العام والأعظم في مجتمعاتهم المشتركة. تلي خدمات الصلاة الجماعيّة محادثات حول موضوع خطبة ذلك الصباح. تُناقَش تعاليم المسيح المخالفة للتيّار السائد. وتُعلَن الرسالة الثورية “لنبيّ الرحمة”، محمد. الكلّ يعمّق مسعاه لاستخراج الكنز الدفين في تقليده الديني وإعلان الحاجة الملحة للتعايش على نطاقٍ أوسع وأعمق. هذه هي الرسالة والغرض من مبادرة شبكة الكنائس والمساجد.
وهذه، أيضًا، رسالة عيد الميلاد. فالله قد بادر في إعادة التواصل مع خليقته التي تمرّدت في وجهه مُذ بزغ فجر الزمان. السيّد المسيح، عمّانوئيل – الله معنا – يدعونا إلى مشاركة غير مستحقّة في مأدبة غير متوقَّعة. ربّ الكون يمدّ يد السلام ليُكْرِمنا بضيافة تفيض حبًّا، رغم بؤس إنسانيّتنا. ونحن، بدورنا، نضع جانبًا واقع عالمنا العنيف لنستقبل سلامه، فنتمكّن حينئذٍ أن نمدّ آخرين بسلام ضيافته هذا في بلدٍ تمزّقه إربًا أنياب الطائفية والعنف والانقسام.
هذه هي رسالة عيد الميلاد. هذه هي الهدايا التي مُنِحَت لنا: السلام الإلهي في خِضَمّ عالم عنيف. نَفَس عليل لأمّ تحتضن الهدية التي منحها إيّاها الله؛ لحن متناغم يهمهمه رعاة يستذكرون هتافات الملائكة المدوية: “المجد لله في العلى، وفي الأرض السلام للحائزين رضاه” (لوقا 2: 14). السلام عليكم ورحمة الله! “سلام الله ورحمته عليكم جميعًا” في هذا الزمن المبارك! زمن الميلاد!
ليُدَوزِن هذا السلام الميلادي المبارك أوتار هذا العام بأكمله، وليجتمع المزيد من المساجد والكنائس في جميع أنحاء البلاد في إنسانيتهم المشتركة لاختبار المحبة والضيافة الإلهيّة ونقل صداها لصالح مجتمعاتنا.