بقلم برنت حمود
كيف لنا أن نتشارك العالم مع أكثر من 68 مليون ضحية للتهجير؟ هذا سؤال حاسم نوجهه في القرن الحادي والعشرين حيث تم اقتلاع أعداد غير مسبوقة من الأفراد من ديارهم وألقوا في دوّامة الوجود المترنح على أطراف أنظمتنا العالمية. إنّ ظاهرة الهجرة القسرية معقدة للغاية ومليئة بالتداعيات. تأثيرها حاد على الطرفين سواء أولئك الذين أُجبروا على ترك ديارهم أو أولئك المُثقلون بمهمة الاستضافة. لقد أثبتت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أنّها تمرّ مرحلة استثنائية لمأساة التهجير، ومع ذلك فإنّ القضية عالمية بالفعل، حيث يتعين على الجميع في كل مكان أن يتعامل مع الألغاز الناشئة عن معدلات التدفقات البشرية الهائلة. وتساهم المجتمعات الإيمانية بتكريس أصواتها لمناقشة القضية والدعوة إلى تطوير أخلاقيات الترحيب والاحتضان بينما ينادي آخرون إلى تنمية شعور من الحذر والتقييد. الشغف يتزايد حول الموضوع، ما يجعل الأمر أكثر أهمية للتفكير في لبّ المسألة. أعتقد أنّ التأمل الصادق سيؤدي إلى هذا الاستنتاج العميق: التهجير موت.
الموت هو سبب فرار الناس من منازلهم. إنّ التهديدات بالحرب، والإبادة الجماعية، والاضطهاد المتطرف، ومجموعة من الأخطار الأخرى قد جعلت ملايين الأشخاص خائري الأمل ومضطرين للبحث عن ملجأ في مناطق غريبة. إنّ الصور والقصص المروعة تجعلنا ندرك تمامًا الظروف المميتة التي تتسبب التهجير في أماكن مثل سوريا وميانمار، لكنّنا غالبًا ما يفوتنا أنّ الموت ليس ببساطة الخطر الذي يهرب منه المرغمون على النزوح، بل هو ما يهربون إليه أيضًا. هذا واضح في الكتاب المقدس حيث يظهر التهجير والموت كمتآمرين شريرين ضد التجربة الإنسانية.
اقتران الموت والتهجير يظهران في الكتاب المقدس في البداية. يبدأ سفر التكوين بسرد قصّة الله الذي يصمّم واقعًا ماديًا حيث كلّ شيء مصنوع لينتمي إلى مكان ما ضمن ديناميكية التموضع. خلق الله آدم وحواء على صورته ووضعهما بين خيرات جنّته، أعطاهما بيتًا. أعطاهما كلّ شيء بشرط واحد بسيط، ” وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ” (تك 2: 17). لقد أكلا الثمرة ولكنّهما لم يموتا في الواقع، بل نزحا. لقد قضا الله حكمًا صالحًا وأخرج الإنسانية من الجنّة ووضعهما في مكان متزعزع يشوبه ظلم الخطية. هذا هو التهجير البشري العظيم الذي تنبع منه جميع عمليات التهجير البشرية، وتتوالى قصص الكتاب المقدّس بقصص تٌظهِر موتًا كامنًا في ظلال التهجير. دعونا ننظر إلى بعض هذه القصص:
بالنسبة للكتاب المقدس، إنّ إجبارنا على العيش “خارج مكاننا” هو مأساة مميتة، ويتردد صدى هذه المشاعر في كلّ حدب وصوب في الكتاب المقدّس. يصف الكاتب الأمريكي-الفلسطيني إدوارد سعيد التهجير في المنفى بأنه “حالة من الخسارة النهائية” تتسم “بالصدع القسري الذي لا يمكن إصلاحه بين الإنسان ومكانه الأصلي بين الذات وموطنها الحقيقي”.[1] ويؤطّر الشاعر الفلسطيني محمود درويش رهبة عدم انتمائه حين يقول:
نُسَافِرُ كَالنَّاسِ، لَكِنَّنا لاَ نَعُودُ إلَى أي شَيْءِ… كَأَنَّ السَّفَرْ
طَرِيقُ الغُيُومِ. دَفَنَّا أَحِبتَّنَا فِي ظِلاَلِ الغُيُومِ وَبَيْنَ جُذُوعِ الشَّجَرْ[2]
يتتبع الروائي الأمريكي جون شتاينبك في “عناقيد الغضب” رحلة عائلة في التهجير والضياع خلال قصعة الغبار ويسأل وسط الخسارة والتشريد، “كيف يمكننا العيش بدون حياتنا؟ كيف يمكننا أن نعرف أنفسنا من دون ماضينا؟”[3] إن تاريخ البشرية يزخر بالنوح في خضم مأساة التهجير المميت، وأخشى أن يكون ثمة المزيد من النوح مع تقدم التاريخ إلى الأمام.
دعونا نحرص على ألا نعتقد أنّ التهجير هو مجرد مسألة هجوم نفسي أو روحي؛ فهو يقترن بالموت الجسدي أيضًا. لا يمكن قياس مقدار الخسائر البشرية التي تتكشف نتيجة شروع المهاجرين القسريين بالقيام برحلات محفوفة بالمخاطر مُكافحين في سبيل تأمين حاجاتهم الإنسانية الأساسية وحمايتهم أو تحديد هذه الخسائر عندما يجدون ملاذًا لهم. للأسف، يتعرّض الأطفال بخاصة لخطر الأذى الجسدي والاستغلال. التهجير موت، ولهذا السبب بالضبط يتطلّب اهتمام أتباع المسيح.
المسيح هو المضاد الحيوي للموت. كانت خدمته بأكملها حركة جذرية مؤيدة للحياة بدافع تجديد كل جانب من جوانب الإنسان. “فيه كانت الحياة”، ولقد جاء “ليكون لنا حياة، وليكون لنا أفضل” (يوحنا 1: 4، 10:10). كلّ ما رائحة نتنة يبعثها الموت أليمة لنا، ومع ذلك يمكننا أن ننوح برجاء علمين أنّ موت المسيح نفسه وقيامته النهائية قد بشّرا بواقع جديد حيث “قد ابتلع الموت إلى غلبة” (1 كورنثوس 15 :54). سوف يتحول عالمنا المنكسر إلى خليقة جديدة حيث سيبتلع التهجير البشري إلى تموضع نهائي مجيد. وكما أنّ الموت يمكن أن يقودنا إلى حياة حقيقية، فإنّ التشرد يمكن أن يقودنا إلى وطننا الحقيقي. هذا رجاء يجب أن يجنّد انخراطنا بمعالجة التهجير البشري. الله يعمل أمرًا جديدًا في وسطنا!
يكشف الكتاب المقدس تهديدات التهجير بالموت ويرشدنا في كيفية الرد على هذا التحدي. أقدّم هذه الأفكار المتواضعة لأولئك الذين يعانون التهجير أو يخدمون وسط المشردين:
هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ لِكُلِّ السَّبْيِ الَّذِي سَبَيْتُهُ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ: “اِبْنُوا بُيُوتًا وَاسْكُنُوا، وَاغْرِسُوا جَنَّاتٍ وَكُلُوا ثَمَرَهَا. خُذُوا نِسَاءً وَلِدُوا بَنِينَ وَبَنَاتٍ وَخُذُوا لِبَنِيكُمْ نِسَاءً وَأَعْطُوا بَنَاتِكُمْ لِرِجَال فَيَلِدْنَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَاكْثُرُوا هُنَاكَ وَلاَ تَقِلُّوا. وَاطْلُبُوا سَلاَمَ الْمَدِينَةِ الَّتِي سَبَيْتُكُمْ إِلَيْهَا، وَصَلُّوا لأَجْلِهَا إِلَى الرَّبِّ، لأَنَّهُ بِسَلاَمِهَا يَكُونُ لَكُمْ سَلاَمٌ.” (إرميا 29: 4-7)
لا يمكن للحياة أن تنتظر انتهاء التهجير؛ لا بدّ أن تستمر. تتمتّع المجتمعات الإيمانية بفرصة الانخراط في عملية تحويل التهجير من حالة انعدام الحياة إلى حالة تنبض بالحياة. هذا هو عمل الإنجيل، وهو يغيّر اليوم الواقع جذريًا للعديد من المهجرين الذين يكتشفون وطنًا في ملكوت الله ورعايته في جسد المسيح
يجب أن تتحوّل قصة النزوح من قصة عن بعضنا إلى قصة عنّا جميعًا. في عالم محطم حيث يكافح الجميع في مجالات ما بين التموضع والتهجير والحياة والموت، سنبذل قصارى جهدنا لنلبّي دعوة سفر التثنية 30: 19: “قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ.”
[1] Edward Said, “The Mind of Winter: Reflections on Life in Exile,” Harpers (September 1983) 50.
[2] Mahmoud Darwish, “We Travel Like Other People,” included in Larry Towell, Then Palestine (New York: Aperture, 1998) 32.
[3] John Steinbeck, The Grapes of Wrath, 1939. Chapter 9.