عيد الميلاد الشيعي وكلمة الله المتجسّد
يناير 10, 2019
تقرير مكينزي حول لبنان: الفساد يضرب أطنابه
يناير 24, 2019

الشرق والغرب: يقدّمان أفضل ما لديهما للسير قُدمًا

بقلم مايك كون

علمت مؤخرًا خبر وفاة يوجين بيترسون وهو كاتب، راعٍ وأحد مترجمي الكتاب المقدّس. وفي الوقت نفسه، كنت أفكّر في وفاة قائد عزيز وموقّر للكنيسة في الشرق الأوسط – غسّان خلف والذي كان أيضًا راعيًا، مرشدًا، لاهوتيًا ومترجمًا الكتاب المقدس وقد شغل لسنوات عديدة منصب رئيس كلية اللاهوت المعمدانية العربية. وبدأت أفكاري تجول جامعةً الرجلين على الرغم من أنّه، حسب علمي، لم يلتقيا أو يتقابلا أبدًا. وتبادرت إلى ذهني تلك الفكرة المدهشة أنّ هذين الباحثين الراعيين كانا يمثلان أفضل ما قدّمته الحركة الإنجيلية في كلّ من الشرق والغرب.

في غضون أربع وعشرين ساعة من وفاة غسان خلف، غصّت صفحتي على الفيسبوك بصور له مع العديد من الطلاب والمتدربين على يده. كان من المذهل أن نرى عمق التقدير والاحترام اللذين حظا عليهما هذا الرجل. يبدو أن قادة الشرق الأوسط كانوا يصطفون لإعلان هذا الرجل مرشدًا لهم.

وعلى المنوال نفسه، أثار موت يوجين بيترسون وابل من كلمات الثناء عبر الإنترنت من رعاةٍ ولاهوتيين ومرسلين، كثيرون منهم ذكروا كيف كان يقوم بإرسال إرشادات رعوية عبر الرسائل المكتوبة بخط يده وأو من خلال المكالمات الهاتفية. كلا الرجلين كانا قدوة ومثالًا، كانا رجُلين قالا من خلال حياتهما “كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ.”

أعتقد أنّ كلّ من عرف القس غسان يتفق على أنّ الساعات الأحب على قلبه هي تلك التي انكبّ فيها على النص الكتابي، وتفحّص التعقيدات (وإخفاقات الترجمة) في نسخة فان دايك العربية التقليدية، وقارنها بترجماته الخاصة وأخرج عمق معرفته وسكبها في وعظات تفسيرية ومحاضرات تعليمية. (كانت محاضراته تتسم دائمًا بحكايات وقصص شخصية.) وكما علمت، كان يعمل على نسخة جديدة من الكتاب المقدس العربي في أسابيعه الأخيرة.

وبالمثل اشتهر يوجين بيترسون بترجمته للكتاب المقدس إلى اللغة الإنجليزية المعاصرة. أصبحت “الرسالة” (عنوان ترجمة بيترسون) أكثر الكتب مبيعًا، وقدّمت رسالة الكتاب المقدس إلى الحياة للعالم الكتابي، وحضور الكنيسة والقارئ الفضولي على حدّ سواء. كلا الرجُلين أحبّا الكتاب المقدس، وتعلّقا به لكونه كلمة الله الثمينة. لقد عملوا به بفرح وانسياب. وكلاهما نقلاه بلسان مجتمعاتهما.

كان كلا الرجُلين من رجال الكنيسة المكرّسين والكتّاب الناشطين والرعاة والعلماء من الطراز الرفيع. بالإضافة إلى دوره البارز في كلية اللاهوت المعمدانية العربية، خدم القس غسّان خلف سنوات طويلة كراعٍ لكنيسة الحدت المعمدانية (الآن كنيسة القيامة بيروت – الراعي الحالي هو الابن الروحي للقس غسّان). امتدت موهبته الرعوية إلى ما هو أبعد من جدران تلك الكنيسة. كان معروفًا كقسّ الراعي لطلابه وغيره من القادة المسيحيين في جميع أنحاء العالم العربي. عندما وصل خبر وفاته إلى السودان، اجتمعت مجموعة من القادة السودانيين لتكريمه على بعد مئات الأميال من بلده لبنان. لا عجب في ذلك لأنّه كان يحب أن يذكّرهم بأنّه سوداني أيضًا. لقد شعر المصريون والكثيرون من شمال إفريقيا والسوريون والعراقيون وأشخاص من أمم كثيرة بالرعاية الأبوية للقس غسان. من النادر أن يجتمع في شخص واحد موهبة الراعية وعقل العالم المفكّر. غير أنّ ذلك كان ينطبق على غسّان خلف. لم يكن أكاديميًا جافًا ولم يكن جانبه الرعوي الحنون خالٍ من الرصانة الفكرية. هذه التركيبة النادرة أعطته قيمة لا تُقدّر بثمن للمسيحيين في الشرق الأوسط وأدت بنا إلى الشعور بخسارة كبيرة.

كان بوسع يوجين بيترسون أن يصبّ مهاراته ومواهبه بسهولة في الأوساط الأكاديمية، وفي وقت ما، كان يرغب القيام بذلك. غير أنّ مسيرته أدّت به إلى الخدمة الرعوية حيث وضع معيارًا جديدًا للدعوة الراعوية في بيئة الكنيسة المليئة بالبراغماتية والنسبية والنفعية. وضع بيترسون نغمة راديكالية جديدة للرعاة في الولايات المتحدة يتردد صداها في جميع أنحاء العالم. كانت كنيسته صغيرة نسبيًا، إلّا أنّ الأعداد الكبيرة والتسويق الجماعي لم يغويه قط. أراد أن يعرف شعبه وأن يعرف أسماءهم – جميعًا. ربّما هذا ما يفسر بقاءه في الكنيسة نفسها لمدة تسع وعشرين سنة! لقد تخلّى عن القيمة الأمريكية المفترضة التي تقول “الأكبر هو الأفضل” ووضع بصمته بالتعمق في الخدمة في رعيّة صغيرة. واحد من العديد من منشوراته بعنوان “الراعي” – دعوة واضحة إلى الخدمة الراعوية التي أثّرت في جيل كامل من الرعاة في الولايات المتحدة وخارجها.

ثمة سمة أخرى يشترك فيها هذان الرجُلان، أقلّه في ذهني. كانا رجُلَين متعددَي الإمكانات يمكنهما احتضان اتساع الكنيسة وتنوعها بينما يتكلّمان بشغف إلى المتفرجين. كثيرًا ما تخرج الكنائس الإنجيلية في الشرق الأوسط (والغرب) من منطقة الراحة لفتح قلبها لاستقبال المؤمنين الجدد من خلفيات أخرى. ينطبق ذلك على الخلفيات الإسلامية والدرزية وربما بنسبة أقل على الذين يأتون من الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية التاريخية في الشرق الأوسط. كان القس غسان ماهرًا في عبور تلك الحدود. أعرف العديد من المؤمنين من الخلفية الإسلامية الذين يعتبرونه أباهم الروحي. منحته دراسته وبصيرته الروحية استحسانًا بين مختلف التقاليد المسيحية في الشرق الأوسط. كان مسكونيًا بكلّ ما في الكلمة من معنى.

وعلى نفس المنوال، أصبح بيترسون، رغم أنّه كان راعيًا مشيخيًا لفترة طويلة، متكلّمًا ومؤلفًا مرغوبًا به وعابرًا مختلف الخطوط الطائفية. علاوة على ذلك استحوذ ميله للتشكيل الروحي اهتمام العديد من الباحثين الروحيين في الغرب المنحدر. لقد كان مزيجًا غير عاديًا – وهو رجل حاكى أوساطه الإنجيليين، ولكنه أعطى تلك الأوساط أيضًا قبولًا في نظر المراقبين العلمانيين. يمكننا أن نستخدم مثله أكثر… ومثل القس غسان خلف.

في رجُلَي الله هذَين اللذين غادرانا، لنا مثالان عن أفضل ما يمكن أن تقدمه الحركة الإنجيليّة في الشرق والغرب. نحن ندرك متأسفين أنّ الإنجيلية، كاسم وجماعة، قد انحدرت جدًا، محاصرة بتجمعاتها السياسية، ومساومة بحروبها الثقافية. في أوقات كهذه، قد يميل الإنجيليون إلى التخلي عن قبيلتهم باحثين عن مراعٍ أكثر خضرة وانتماءات أكثر فطنة. هذه هي الانتماءات السياسية نفسها التي يمكن أن تُحدِث شرخًا بين الإنجيليين في الشرق والغرب. في كفاحنا لإيجاد القواسم المشتركة، نتساءل عمّا إذا كان يمكن أن يكون هناك أيّ وحدة إنجيلية. لكن عندما يظهر القادة الذين يمثلون تقاليدنا أفضل تمثيل، يصبحون راية يمكن لنا نحن البقية أن نحتشد حولها. غسّان خلف ويوجين بيترسون يخلّفان إرثًا من الإنجيلية، على الصعيدين العلمي والشخصي، وهو إرث واسع وعميق، وأصيل في جوهره. إنّهما يخلّفان الإنجيليّة التي يمكن أن تزدهر في الشرق والغرب لأنّها تحمل جمال المسيح وإنجيله وحقّهما. نصلي أن يمنحنا الله نعمة لنُكمل المسيرة.

 

اترك رد