بقلم شادن هاني
عام 1918، تحرّر لبنان من الهَيمنة العثمانية بعد انهيار هذه الإمبراطورية في نهاية الحرب العالمية الأولى وذلك بعد فترة احتلال دامت أربعة قرون. شعَرَ بعدَها بعض المتمسكين بالقومية اللبنانيّة أنّ الوقت قد حان لكيّ يتجسّد حُلمهم الكبير بإنشاء دولة لبنان لبنان. من خلال نظام المتصرفية (الذي أنشئ في لبنان خلال فترة الإصلاح العثماني الذي عُرف بالتنظيمات)، قام المجلس الإداري لجبل لبنان الذي تضمّن ممثلين من جميع الطوائف اللبنانية آنذاك، بإرسال وفد إلى مؤتمر باريس للسلام في 18 كانون الثاني/ يناير، الذي كان قد تبنى مبدأ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون بحق الأمم “بتقرير مصيرها”. قاد البطريرك الماروني الياس الحويّك هذا الوفد من الأعيان اللبنانيين “باسم الحكومة والمجلس الإداري في لبنان، وباسم شعب لبنان كلّه”، لطلب الحكم الذاتي للبنان و”استعادة لبنان لحدوده الطبيعية والتاريخية الكاملة” في ظلّ الانتداب الفرنسي. من الضروري أن نذكُر بأنّ وفودًا أخرى كان لديها طموحات مختلفة للبنان ناشدت بدورها مؤتمر باريس. سعى الكثيرون حينها إلى الوحدة السياسية والثقافية داخل المملكة العربية السورية، التي لم تستمر لفترة طويلة، باعتبارها ذروة التطلّعات القومية العربية، بينما قصد آخرون التطلع إلى أوروبا باعتبادها ثقلا موازيًا لمقاصد النظام الهاشمي لبلاد الشام وتحديدًا للبنان. وبحلول نهاية عام 1920، منحت عصبة الأمم قرار إنشاء دولة لبنان الكبير الذي ضمّ محافظات جبل لبنان وشمال لبنان وجنوبه والبقاع. وفي عام 1926، تم إعلان “الجمهورية اللبنانية الموّحدة” تحت الانتداب الفرنسي.
أعتقد أنه آنذاك، كانت لدينا فرصة إنشاء بلد موّحد أو أقلّه العمل على تحقيق هذا الهدف، لكن الطموحات الطائفية المتحالفة مع الأجندات الإقليمية والدولية كانت سائدة.
العام القادم 2020، تأتي معه الذكرى المئوية لهذا الحدث التاريخي في تأسيس بلدنا. لا يزال لبنان كما عرفناه يجمع التنوع الديني الذي ساهم في إنشائه. ولكن رغم الرؤى المتنافسة للبلد ومكانته في المنطقة آنذاك، كانت الوحدة هدفًا واضحًا وصريحًا، وهذا بحدّ ذاته ما يثير اهتمامي. اليوم، مفهومنا ورؤيتنا للبنان أصبحت مختلفة. فنحن نرى لبنان من خلال عدسة استقلالية كلّ طائفة وسيادتها، والحكم الداخلي المنفصل للطوائف وسط التعدد الطائفي الموجود. وهذا ما يجعل المصدر الوحيد لوحدتنا كلبنانيين، يقتصر على مواطنتنا المشتركة في الجمهورية اللبنانية. نحن نفتقر إلى الشعور بالانتماء المشترك. وأعتقد أنّ المشكلة الأساسية التي تعيقنا كلبنانيين من بناء بلد سليم هو غياب الوحدة، وتحديدًا غياب رؤية الوحدة التي تحتوي التنوع الطائفي الموجود وتُبعد تأثير التنوع الإقليمي المحيط بلبنان. هل يمكننا تصوّر هويتنا الوطنية كلبنانيين بهذه الشروط من أجل الخير العام لجميع من نتشارك معهم هذا التاريخ؟
أظهرت الأشهر التسع الأخيرة صعوبة في تشكيل حكومة لبنانية توافقية انتهت بإيجابية منذ أيام، الأمر الذي يدلّ على عمق الانقسام السياسي والديني بين اللبنانيين المبني على انتماءاتهم الإقليمية. بالنظر إلى قرنٍ مضى، أعتقد أنّه علينا أن نسأل أنفسنا، كيف يمكننا معاودة التفكير في معنى الوحدة الوطنية. هل يمكننا ذلك اليوم في إطار المصالح الداخلية والأجندات الخارجية التي تشد وتدفع كل تجمّع سياسي-ديني كلِّ في اتجاه؟
بعد انتهاء الحرب الأهلية في بداية تسعينات القرن العشرين، استيقظ المجتمع اللبناني على واقع التجمع القسري للمواطنين اللبنانيين على أساس الانتماء الطائفي. في عام 1993، بدأ الحوار بين الأديان عندما شكّل بعض رجال الدين والشخصيات الناشطة ما عُرف بـ”اللجنة الوطنية المسيحية-الإسلامية للحوار”، الهادفة لمعالجة القضايا الطائفية بين الجماعات الدينية في البلد وتعزيز الحوار بين الأديان. كما انخرطت غيرها من المؤسسات العلمانية في هذا المسار وتعزيز البرامج التدريبية في الحوار بين الثقافات وبناء السلام والتسامح. لقد أٌنجِز الكثير من العمل في هذا المجال، ومع ذلك لا زلنا إلى اليوم طائفيين كما كنّا منذ تشكيل بلادنا. نحن نتعايش في هذا البلد بدلًا من أن نتشارك في العيش سوية.
استمرارًا لهذا التاريخ من الحوار، قام معهد دراسات الشرق الأوسط بتشكيل هيئة من رجال الدين الممثلين لطوائفهم لتوجيه مبادرة حوارية لما يعرف ب “شبكة الكنائس والمساجد”. برأيي أن هذا الفريق التوجيهي سيشكّل خطوة مهمّة في إصلاح التباعد الديني والانفصال الاجتماعي الطائفي الموجود في لبنان منذ سنوات، ويمثّل فرصة طموحة لإعادة النظر في مفهوم الانتماء الوطني في لبنان.
في إطار الفريق التوجيهي، التقى رجال الدين من مختلف الطوائف اللبنانية منذ سنة، وبدأوا العمل على خلق مساحة مشتركة للحوار بين الأديان على مستوى القاعدة الشعبية للمجتمع، من خلال رؤية الوحدة في التنوّع على نسق الشعب اللبناني. إذا أردت توصيف قيمة وجمالية هذه اللقاءات للفريق التوجيهي، فسأبدأ بالحديث عن الغنى في القيَم والطموحات لدى أفراد الفريق لخلق مفهوم جديد للتنوع الديني في لبنان. أعضاء هذا الفريق هم أشخاص مميزون في مجتمعاتهم، مُعترف بمستوى تفانيهم العالي والتزامهم كما في مصداقيتهم ونضجهم على كافة الأصعدة. كل هذه الصفات مجتمعة بممثليها في اللقاءات تبثّ روح التقدير والتفاني تجاه المجتمعين بعضهم مع بعض، وتدفعني على الحلم بأنّ هذا الفريق التوجيهي قد يمثّل المستقبل الذي نحلم به جميعنا للبنان. إنّ التضامن المدهش بين أعضاء الفريق، على الرغم من اختلافاتهم التاريخية والنزاعات الشرعية أحيانًا، يدلّ على إمكانية إنشاء واقع جديد حيث يشترك المسلمون والمسيحيون والدروز، مع جميع المذاهب الفرعية لهم، في الشعور بالانتماء والملكية الحقّة للبلاد. هؤلاء القادة الشجعان تجرّأوا على أخذ خطوة إلى الأمام خارج مكان راحتهم لملاقاة الآخر والوقوف معه.
أستطيع أن أشهد عن جمالية شبه ملموسة في هذه اللقاءات، حين يشارك الشيخ والكاهن مخاوفهم ويلتمسون المشورة من بعضهم البعض، عندما يتشاركون القصص والأخبار التي ينتهي بعضها بضحكة لا تميّز الدين أو الطائفة، وحين يخططون لبرنامج “شبكة الكنائس والمسجد” ويتسابقون على تحمّل المسؤوليات.
وعلى مدار مئة عام كانت لدينا توقعات عالية لبلدنا رغم جميع الصراعات والمشاكل. وهذا موقف طبيعي من الشعب من تجاه وطنه. ولكن مع اقتراب الذكرى المئوية لتأسيس دولة لبنان المعاصر في العام المقبل، دعونا نفكّر فيما يمكننا أن نقدّمه لبلدنا. هدية مكوّنة من مجموعة من الشخصيّات الدينية المخلصة والمدفوعة بالإيمان والمؤهلة من الله للعمل من أجل المصالحة، ومن أجل بلد موّحد. في الحقيقة ما يقوم به رجال الدين من خلال عمل شبكة الكنائس والمساجد هو هدية متواضعة للبنان. مع إنجاز العمل وتمكين العلاقات التي شكّلها هذا الفريق، لدينا أمل في رفع القيمة والكرامة الإنسانية المعطاة من الله للإنسان فوق الانقسامات الدينية والسياسية، والعمل لخلق لغة مشتركة من المحبة والخدمة لبعضنا البعض، خاضعين بأمانة لله.