بقلم الياس غزال
رهاب الإسلام يتزايد. فعلى مدار العقد الماضي، زادت جرائم الكراهية ضد المسلمين بمعدل ينذر بالخطر. وهذا يعني أنّ المزيد من المسلمين حول العالم يُستَهدَفون لمجرد حملهم هوية الإسلام. أي ليس المسلمين المتواطئين في الأنشطة الإرهابية. إنّ المضايقات المذكورة هي تلك التي يتعرض لها مارة مسلمون وهم في أكثر الأحيان أبرياء يصادف وجودهم في المكان الخطأ في الوقت الخطأ.
ثمّة مواقف مختلطة تجاه المسلمين وسط هذه الموجة من معاداة الإسلام. فنرى أنّه من ناحيةٍ ثمة أشخاص يخبرون فقط عن قصص مرعبة عن المسلمين ويرفضون الاعتراف بالتنوع أو أنّه ثمة ما هو صالح في الإسلام. بالنسبة إليهم، لا يضحى المسلمون مسلمين حقيقيين ما لم يكونوا أشرارًا. ومن ناحية أخرى، ثمة أشخاص ينكرون أنّ للإيمان صلة بالعنف الذي يُرتكب باسم الإسلام. يبذل هؤلاء الأشخاص قصارى جهدهم ليُظهروا أنّ السياق يقدّم التفسير الأساسي. ويحلّلون أنّ عند مواجهة الموقف نفسه يتصرّف المسلم وغير المسلم على نحوٍ مماثل. أعتقد أنّ هذين الموقفين تبسيطيان ومضران للعلاقات المسيحية الإسلامية.
وأكثر ما يثير القلق بالنسبة لي هو موقف بعض المسيحيين الذين يؤمنون بالإنجيل. هم يؤمنون أنّهم مدعوون لمحبة الجميع، لكنّهم يغضبون من العنف الذي تمارسه بعض الجماعات الإسلامية، ولا سيّما ضدّ مسيحيين آخرين. وهم يريدون محبّة قريبهم المسلم، لكنّهم يجدون صعوبة في فعل ذلك في زمن داعش. إنهم يتخيّلون أنّ وراء كلّ مسلم ثمة مقاتل متعصّب يريد إيذاءهم. هم يريدون محبة قريبهم المسلم، لكنّهم يتعثّرون بمعتقدات هذا الجار. وفعليًا هم لا ينظرون إليه كشخص. إنّما يرون الدين فيه، ذلك الدين المتخلّف. وللتوفيق بين موقفهم وإيمانهم، يدّعون أنّهم يحبّون الخاطئ، لكنّهم يكرهون الخطيئة.
هذا التصريح – “أحب الخاطئ، ولكن أكره الخطيئة” – أصبح كلامًا مسيحيًا مبتذلًا. في بعض الدوائر، يُذكر هذا الكلام كما لو كان قد قاله الله. تبدو هذه الرسالة فاضلة في ظاهرها. فهي تعني أن نحب الناس، لكن ألا نتهاون مع خطاياهم، كما يفعل الله. لا خلاف على هذا الكلام. غير أنّني شهدت هذا البيان يلتف بدلالات مختلفة. وقد يذهب المعنى الخفي لهذا التصريح إلى ما يلي: أحب الخطأة، ولكن عندما تجد صعوبة في القيام بذلك، فذلك بسبب خطيئتهم، ما يجعلهم لا يُطاقون. لا تتهاون معهم! أخبرهم كم خطيئتهم قبيحة، وكم أنت تكرهها تمامًا كالله. الفكرة الدفينة في هذا التصريح أنّه ما لم يتوب الخطأة ويضحوا طاهرين، لن نتمكّن من حبّهم.
بصرف النظر عما يعنيه الناس حقًا، أجد أنّ تطبيق مبدأ “أحب الخاطئ، لكن أكره الخطيئة” يمثّل مشكلة عامة. فيما يتجدّد الخطأة، يبقى حبّنا محدودًا. لا يمكننا فصل الخطيئة عن الخاطئ. نحن لا نحب الخطأة دائمًا رغم خطاياهم. الله وحده قادر على فصل الخطيئة تمامًا من الخاطئ، لأنّه هو الوحيد الذي بلا خطيئة. الله وحده لا يمكن الدمج بينه وبين الخطيئة، لأنّه هو الوحيد الذي في موقع الديّان على الخطيئة. لذلك لله وحده يمكن أن يحب الخاطئ ولكنّه يكره الخطيئة، وهو يفعل ذلك بثبات وحزم. يجب أن نمتنع عن تحويل حقيقة حول الله إلى وصف لنا.
عندما يتعلق الأمر بتطبيق مبدأ “أحب الخاطئ، ولكن أكره الخطيئة” على الإسلام، أعتقد أنّه من الخطورة التظاهر خلف شعار “أحب المسلمين، لكن أكره الإسلام”. لا أعتقد أنّنا نستطيع عزل الناس عن هويتهم المختارة، لأنّ الناس لا يفعلون ذلك لأنفسهم ويعزلون نفسهم عن هويّتهم. تشكّل هويّاتنا ماهيتنا بطرق معقّدة ولا يمكن تعقبها. هويّاتنا ترشد قراراتنا وتوجّه أعمالنا. ووفقًا لذلك، إنّ إيمان قريبكم المسلم يجعلهم ما هم عليه. وهو يؤطّر سلوكه. ليس عليك أن تحب وجهات نظرهم للعالم، ولكن إذا كنت تكرهها، فأنت تضع حبك الحقيقي لهم في وضع خطر.
وفي حين أنّ المسيحيين مدعوون ومن المتوقع منهم أن يحبّوا الجميع، بمن فيهم أعداؤهم، فإنّهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك إلّا بنعمة الله والنظر إلى ما هو أبعد من الهويّات التي اختارها الناس لأنفسهم. إنّهم ينظرون إلى الناس من منظور الله، كبشر مخلوقين على صورة الله، يحتاجون إلى الخلاص من خطاياهم. هذه هي الهوية الوحيدة التي لا يمكن المقايضة بها وتبديلها والتي نتشاطرها جميعًا، وهي الأساس الذي ينبغي أن نبني عليه تعاملنا مع الآخرين.
علاوة على ذلك، من المربك أن تساوي الخطيئة بنظام أفكار أو معتقدات إيمانية. على سبيل المثال، إنّ وصف الرأسمالية أو الاعتقاد في الحياة خارج كوكب الأرض بالخطيئة هو وصف فارغ وبلا معنى. الخطيئة هي فعل عصيان إرادة الله. الأفكار والمعتقدات هي نظم تفكيرية. وتضحى هذه النظم خطيئة عند تبنيهم وتطبيقهم على نحو ينتهك إرادة الله. غير أنّ الله لا يحكم على الأفكار الخاطئة بصورة تجريدية. إنّه يحكم على الأشخاص الذين، بإرادتهم أم من دون إرادتهم، يرتكبون الخطيئة حين ينغمسون في هذه الأفكار والمعتقدات المتمردة. بعبارة أخرى، فإنّ الله لا يحكم على القتل أو عبادة الأوثان، بل على القتلة وعبدة الأوثان. والنقطة التي أريد أن أوضحها هنا هي أنّه من غير المجدي أن نقول أنّ الإسلام خطيئة، لأنّ ذلك يضع الإسلام كهدف لغضب الله، بينما يُعلن غضب الله “عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ.”(رومية 1 :18). بمعنى آخر، إنّ الأشخاص الخاطئين هم الذين يقع عليهم غضب الله، بغض النظر عن نظام القيم الذين يتبعونه. من خلال استهداف الإسلام والإصرار على أنّه خطيئة، وهو ما أوضحت آنفًا أنّه غير منطقي، فإننا نلمّح بطريقة أو بأخرى إلى أنّ المسلمين خطأة بدرجة أكبر. نتيجةً لذلك، فإنّنا نعذر وعلى نحو غير مباشر إظهار بعض الكراهية تجاههم، أو على الأقل نبرر عدم حبّنا لهم من صميم القلب. ولكي نكون واضحين، نحن جميعًا مذنبون على قدم المساواة، وكلنا بحاجة ماسة إلى الفداء. إذا مارسنا التمييز بحقّ المسلمين لأنّنا نعتقد أنّ خطاياهم أكثر فظاعة من خطايانا، نُصاب بذنب المراءة والبر الذاتي.
أجد بعض التشابه بين موقف المسيحيين الذين يقدرون شعار “أحب المسلمين، لكن أكره الإسلام” وموقف تلاميذ يسوع اليهود تجاه السامريين. كان السامريون من بني إسرائيل المختلطين مع الأمم. لقد استعاروا قدراً كبيراً من تقاليد التوراة والتقاليد اليهودية، لكن هذا لم يُكسِبهم سوى العداء بدلًا من النعمة من جانب اليهود. في نظر اليهود، كان السامريون نجسين ويجب تجنّبهم (يوحنا 4: 9). علاوة على ذلك، كان لدى التلاميذ جرعة إضافية من الكراهية تجاههم. عندما رفضت قرية سامرية استقبال يسوع أثناء سفره إلى أورشليم، كان التلاميذ غاضبين لرفض سيدهم، وطلبوا من يسوع أن يُنزل النار من السماء ويبيدها (لوقا 9: 51-55). يبدو ذلك مبالغ فيه لأنّه لا يمكن اعتبار القرية قد ارتكبت جريمة لتستحق حكمًا كهذا. لم تكن تلك القرية السامرية وحدها تستحق كل هذا العقاب لا سيّما حين نفكّر في صرخة يسوع بالويل لكُورَزِينُ وبيت صيدا وكفرناحوم لأنّها لم تتب (لوقا 10: 13-15). ومع ذلك، ليس واضحًا ما إذا كان لدى التلاميذ أي سخط تجاه أي من تلك المدن. أظن أنّ حكم التلاميذ على القرية السامرية كان بدافع الكراهية، وليس البر أو العدالة.
ومن غير المفاجئ أنّ استجابة يسوع لتلاميذه كانت واقعية وبنّاءة. بينما كان مجتمعه يكنّ الغضب للسامريين، انتهر يسوع تلاميذه للتفكير في تدمير قرى السامرة. قال لتلميذيه، “لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا!” (لوقا 9 :55). على الأرجح، كان التلاميذ على دراية بقصص حول النبي إيليا وكيف أسقط النار الآكلة من السماء عدّة مرّات في السامرة (1 ملوك 18 :38، 2 ملوك 1: 10-12). بالتأكيد تذكّروا بسالة إيليا بعد ظهوره على جبل التجلي الذي حدث قبل فترة وجيزة من الاقتراب من السامرة (لوقا 9: 30-31) كان إيليا أحد الأنبياء العظماء في إسرائيل، ويبدو أنّ التلاميذ أرادوا أن يحاكوه. إلّا أنّ يسوع لم يكن معجبًا بحماسهم الزائف وبرهم الذاتي. فقد عارضهم من خلال التشكيك في دوافعهم. كانت رغبتهم منقادة بروح غريبة، وليس الروح التي حلت بالمسيح، فمن المنطقي أنّ التلاميذ كانوا مخطئين لأنهم رغبوا إبادة مجموعة من السامريين لمجرد أنّهم سامريون.
موقف يسوع تجاه السامريين هو نموذج مطلق لكيفية التعامل مع المختلفين عنّا دينيًا. أولاً، لم يعطِ يسوع تعميمات شاملة حول السامريين (على سبيل المثال، كلّهم أشرار). في الحقيقة، عندما أراد أن يشرح ثاني أعظم وصية، تحب قريبك كنفسك، روى قصة وجعل بطلها سامريًا (لوقا ١٠: ٢٥ـ ٣٧). ثانيًا، أظهر لهم يسوع الرحمة ولم يشك في نواياهم أو دوافعهم لمجرد أنًهم كانوا من السامريين. عندما صرخ إليه العشرة برص طالبين الرحمة، أبرأهم جميعًا دون تمييز. ومن المثير للاهتمام أنّ الشخص الوحيد الذي شكره هو السامري، وأثنى يسوع على إيمانه (لوقا 17: 11-19). ثالثًا، لم يتجنّب السامريين. بل بالأحرى، سافر من الجليل إلى أورشليم مرورًا بالسامرة، على عكس معظم اليهود الذين سلكوا الطريق الطويل غير المباشر شرق نهر الأردن. لقد قضى أيامًا متتالية في قراهم (يوحنا 4: 41). رابعًا، لم يساوم يسوع على الحق. في حديثه مع المرأة السامرية على البئر، لم يساوم على مصدر الخلاص (يوحنا 4: 22). في الوقت نفسه، لا نراه ‘يدمّر’ نظامها الإيماني. بدلاً من ذلك، قال لها الحق بنعمة عن العبادة المقبولة والمسيّا. كان نهجه لطيفًا للغاية ورعويًا، شعرت المرأة بالاندفاع لإخبار أسرتها وأصدقاءها ليأتوا ويسمعوا يسوع، وكثير منهم آمنوا بأنّه مخلّص العالم!
نصلّي أن يطّهر الله قلوبنا من التعصب، ويساعدنا على التعامل مع قريبنا المسلم على غرار يسوع.