بقلم مايك كون
هل ثمة “لاهوتيون يقطنون البرج العاجي”؟
لم أر يومًا برجًا عاجيًا … وهذا هو المغزى. فلاهوتيو البرج العاجي يتعاملون مع أمورٍ لا تهم أحدًا، أمور لا تُحدث فرقًا عمليًا في الحياة اليومية.
أتذكر ضحكي على “البومة” وأنا أقرأ كتاب ويني الدبدوب لأطفالي (منذ زمن طويل). كانت البومة العجوز المسكينة، التي يُفترض أنّها رمزًا للحكمة، تميل إلى إدلاء رأيها بسلطة أسقفية ما جعلها تخفق في التواصل مع الحياة العادية.
أحيانًا شعرت أنّني كالبومة، إلى حدّ ما، مع أطفالي. ربما لهذا أتردّد في كتابة هذه المدونة. أتساءل ما إذا كان الثالوث مسألة “برج عاجي” في اللاهوت، وبالنسبة للعالم الإسلامي لا ينبغي أن يُزجّ في سياق المحادثة. لكن نظرًا لأنّ ترددي يعود إلى الضغينة التي لطالما سيطرت على المحادثة أكثر من القناعة، سأختار القناعة.
المفهوم التعريفي لله في الإسلام هو التوحيد. هذه الكلمة العربية مشتقة من الجذر نفسه ككلمة “واحد”. وحرفيًا تعني “جعل الشيء واحدًا”. لذلك عندما يتلو المسلم عقيدة “لا إله إلّا الله …” فهو يقرّ بالتوحيد ويمارسه أي يعترف بأنّ الله هو كائن فريد ومتفرد. لا يمكن أن يقترن بأي شيء مخلوق، سواءً كان ماديًا أو معنويًا في ذهن المصلّي. ثمة أيضًا اسم لهذا “الإقران”. إنّه الشرك. لذلك فالمشرك هو مذنب بإقران الله بكيان مخلوق أو مُتخيّل وهو إثم لا يُغتفر[1].
إليكم المشكلة. ثمة تاريخ طويل من التفاعل الجدلي بين المسيحية والإسلام. كان يُنظر إلى المسيحيين، من خلال إيمانهم في الثالوث والطبيعة الإنسانية الإلهية للمسيح، على أنّهم “مُشركون”. عند قراءة هذا التاريخ، يتوصل المرء إلى استنتاج مفاده أنّ هذه المعتقدات المسيحية باتت “مثلًا” للتوحيد المعيب بالنسبة للمفكّرين المسلمين حيث أخذ العلماء الجدليون المسلمون الثالوث كهدف لهجماتهم الجدلية[2]. بالطبع، ردّ المسيحيون في محاولة للدفاع عن الثالوث بطرق عقلانية وفلسفية.
يحمل التفاعل الجدلي في طيّاته كلّ علامات “لاهوت البرج العاجي” بمصطلحاته التي لا يمكن اختراقها وحججه الغامضة. بعد قراءة الأدب، قد يميل المسيحيون المعاصرون إلى “إبقاء النار تحت الرماد”. نظرًا لطبيعة هذا التفاعل غير المثمرة، ألن يكون من الحمة لنا نحن الذين نود أن نمثّل ملكوت المسيح في الشرق الأوسط اليوم أن ننتقل إلى مجالات أكثر إثمارًا في محادثاتنا؟ ففي نهاية المطاف ثمّة الكثير من العوامل المشتركة بين الديانتين العالميتين، ناهيك عن الكثير من القضايا التي يجب حلّها في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ألا ينبغي أن يكون تركيزنا على صنع السلام والتعايش، لا سيّما في ظلّ اندلاع العنف الديني المعاصر؟ ولعلّ التحدّي المتمثّل في وثيقة “كلمة سواء”، هو أنّ على الديانتين “التنافس مع بعضهما البعض في الأعمال الصالحة” هو نهج أكثر إثمارًا[3]. دعونا نترك وراءنا النزاعات اللاهوتية المزمنة لإيجاد أرض خصبة للتفاعل بين المسلمين والمسيحيين.
ربما سيكون لدى البومة الحكيمة الجرأة لتقول “فكّروا مرّة أخرى في الثالوث”. تكلّموا عنه في السياق الإسلامي، بل أظهروه في صنع السلام بين المجتمعات الإسلامية والمسيحية. أخرجوا النار من تحت الرماد وإليكم الأسباب.
أولاً، لأنّ الثالوث هو الإنجيل. يُعبّر الثالوث عن إله هو محبّة بطبيعته، إله وحدته ليست أحادية (وحدة واحدة) ولا يمكن اختراقها من أحد إلّا نفسه. في الثالوث، نفهم أنّ الله كان دائمًا وسيظل دائمًا مجتمعًا فريدًا من المحبّة الباذلة نفسها، وشركة الفرح الأبدي. في ضوء الثالوث الأقدس، يصبح بذل المسيح نفسه مفهومًا. عندما ننضم إلى المسيح بالإيمان، ندخل في علاقة المحبة الكاملة هذه حيث نجد المحبة والكمال والقدرة لأن نحيا في الله ولله. يصبح يسوع المسيح أخونا الأكبر يعيدنا إلى شركة فقدنا منذ زمن طويل لكنّها استُعيدت الآن بفرح. هذه هي الأخبار السارة، الإنجيل لنا وللمسلمين. قد يكون من الصعب إدراك الأساس المنطقي للمحبة الإلهية، لكن في الثالوث، نلمح على الأقل شيئًا من عمق هذا الإله وجماله الذي يعرّفه يوحنّا على أنّه محبّة.
ثانيًا، يجب علينا إعادة تقدير الثالوث لأنّنا نحب الناس ونحب المسلمين على وجه التحديد. ألم الابتعاد من محبّة الآب يعمّ كلّ بقاع عالمنا، لكنه يفطر القلب بخاصة في الشرق الأوسط اليوم. تهجير الناس، وقمع الطغاة، وتشتت العائلات بعد أجيال من اللحمة الوثيقة، وفظائع تنظيم داعش، والقاعدة، ونظيرها من المصائب… كلّ ذلك قد أدّى إلى حالة من الألم الوجودي الذي قلّ نظيره في التاريخ. إذا كان صحيحًا، كما يقول أحد اللاهوتيين، أنّ الثالوث يغيّر كلّ شيء[4]، فهل يمكننا أن نُمسك ببرودة الإعلان القائل بأنّ الله، مصدر كلّ الكائنات، هو مجتمع من المحبة الباذلة ذاتها وليس كينونة منعزلة من المسرّة الذاتية المترّفعة؟
أخيرًا، إعادة تقدير الثالوث في الشرق الأوسط قد تسهم إلى حدّ كبير في تجديد كنيسة المسيح هنا وفي أيّ مكان آخر. هنا صيغَ مفهوم الثالوث، ولكن للأسف، غالبًا ما يضيع جماله المجدّد وسط الصراع على الوجود كأقلية رقمية. الكنيسة هنا، كما هو الحال مع الكنيسة في جميع أنحاء العالم، تكافح مع أزمات القيادة وأدوار السلطة. التقييم الحقيقي للثالوث لديه القدرة المفاهيمية لإعادة ضبط معايير فهمنا للقيادة والمجتمع والعلاقات الأسرية والإرسالية. لقد حان الوقت لإعادة النظر في الثالوث الكتابي، والسماح لجماله بتغييرنا.
ما أقترحه هو أنّ مجرد التنافس مع بعضنا البعض في الأعمال الصالحة لا يحقّق رسالتنا كأتباع للمسيح في الشرق الأوسط. من خلال المسيح، تعرفنا على الله بصورة مختلفة. فلندخل في محادثة مع أصدقائنا المسلمين حول “من هو الله”.
تمّت استضافتي مؤخرًا كمتكلّم في كنيسة محلية كان فيها 80٪ على الأقل من الحاضرين مسلمين. شاركت معهم أنّه عندما كان طفلاً صغيراً، لم يكن أحد في عيني أكبر من والدي. بالنسبة لي كان يمكنه حلّ أي مشكلة. بدا أنّه يعرف أيّ شيء وكلّ شيء. كنت مندهشًا بوالدي وأكنّ له تقديرًا عميقًا. غير أنّ علاقتنا لم تتوقّف عند هذا الحد. لدي ذكريات جميلة عن أبي الذي كان يحملني في حضنه، ويلفّ ذراعيه من حولي، ويناديني “يا ابني”. بدأت أحب أبي. دعوة أبي للدخول في علاقة معه أضافت إلى تقديري له. حين شاركت قصتي، لاحظت ابتسامات الحضور وإيمائهم برؤوسهم موافقة على ما قلت. كان الكثير منهم متلهفين على اكتشاف محبة الله الباذلة والتي لا تساوم على قداسته وعظمته بل تعمّق حبّنا لله.
ربّما نحن مترددون في الحديث عن طبيعة ثالوث الله مع الأصدقاء المسلمين لأنّنا لا نعرف كيفية القيام بذلك. تثبت الحجة المنطقية عمومًا عدم جدواها. إظهار الحب الحقيقي الذي يبذل نفسه هو أفضل طريقة للتحضير لبدء الحديث. ثم يملأ الكتاب المقدس الذي يضيء بالروح القدس صورة الإله الثالوثي. يمكن قول الكثير بعد، ولكن في الوقت الحالي، فكّروا معي أنّ اللحظة قد تكون مناسبة الآن لإخراج الثالوث من البرج العاجي وسكبه في قلوب وعقول الذين نحبهم.
ملاحظة: هذه نسخة منقّحة لمدوّنة نشرها معهد دراسات الشرق الأوسط في 8 حزيران/ يونيو 2017.
[1] إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا (سورة النساء، آية 116).
[2] ثمة العديد من الأمثلة على الجدال المسلم المسيحي طوال فترة العصور الوسطى. اثنان من المسلمين البارزين الذين هاجموا الثالوث هم أبو عيسى بن هاران بن محمد الوراق (المتوفى بعد 864 م) والمتحوّل من المسيحية إلى الإسلام علي بن ربّان الطبري (توفي 855). انظر أبو عيسى الوراق وديفيد توماس، الجدال المناهض للمسيحية في الإسلام المبكر: كتاب أبو عيسى الورق ضد الثالوث، منشورات جامعة كامبريدج الشرقية (كامبريدج إنجلترا: مطبعة جامعة كامبريدج، 1992). انظر أيضًا ديفيد توماس، “علي بن ربّان الطبري. تقييم متحوّل لإيمانه السابق”، في الحوارات المسيحية الإسلامية في الشرق الإسلامي في العصور الوسطى، تحرير م. تمك (بيروت: 2007).
[3] مقتبس من سورة آل عمران الآية 64 “كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ”.
http://www.acommonword.com/the-acw-document/. كلمة سواء بيننا وبينكم، (عمّان، الأردن: معهد آل البيت الملكي للفكر الإسلامي، 2009).
[4] Fred Sanders, The Deep Things of God: How the Trinity Changes Everything (Wheaton, IL: Crossway, 2010).