بقلم إيلي حدّاد
أنا مواطن لبناني الأصل. لقد وُلدت وترعرعت في لبنان. أحب لبنان، على الرغم من انعدام الأمن وعدم اليقين والفساد الذي يسود البلد، وعلى الرغم من نشأتي فيه أثناء الحرب الأهلية. لقد ترك لبنان بصماته في حياته. حتّى سنوات الحرب ساهمت في تشكيلي إلى ما أنا عليه اليوم. أحب لبنان في السرّاء والضرّاء. وبالتالي، أهتم كثيرًا بصالح لبنان العام. ولكن ماذا يعني هذا بالنسبة لي كتابع ليسوع المسيح؟ هل أهتم أكثر بمصلحة لبنان على حساب دول الجوار الأخرى؟ هل يجب أن أهتم بحاملي الجنسية اللبنانية أكثر من اهتمامي بالمهجّرين في لبنان مثل السوريين والعراقيين والفلسطينيين ومكتومي القيد؟
أنا أيضًا كندي متجنّس. هاجرت إلى كندا في سن الثلاثين، قرب نهاية الحرب الأهلية في لبنان. أحبّ كندا. لقد فتحت كندا كلّ أنواع الفرص أمامي، سواء أكانت تعليمية أم مهنية أم اجتماعية أم في مجال الخدمة. أضحت كندا وطنًا لي ولزوجتي لأكثر من خمسة عشر عامًا إلى أن عُدنا إلى لبنان، وما زلنا نعتبر كندا وطننا الثاني. لذا أحب كندا وأهتم كثيرًا بصالحها العام. ولكن ماذا يعني ذلك بالنسبة لي كتابع ليسوع المسيح؟ هل يجب أن أهتم بالرفاهية الاقتصادية للكنديين أكثر من اهتمامي بمصلحة الأميركيين والمكسيكيين عندما يتعلق الأمر بمفاوضات اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA)، على سبيل المثال؟ هل هذا يعني أنني يجب أن أهتم برفاهية المواطنين الكنديين أكثر من غيرهم؟
بعد سنوات من العولمة، والتحالفات والاتحادات السياسية والاقتصادية المتزايدة، والتقارب المتزايد بين وجهات النظر والثقافات العالمية، بدأ الغرب يختبر اتجاهًا معاكسًا. وباتت الحمائية والقومية مهيمنتين. فالوطنية التي تُعرَّف بأنّها حب الوطن، يمكن أن تكون أمرًا جيدًا. أمّا القومية، من ناحية أخرى، تأخذ هذا الحب إلى أقصى الحدود عندما يُفهم حب بلدك الخاص على حساب البلدان الأخرى. والحمائية أكثر قسوة من ذلك إذ تُعرّف على أنّها حماية بلدك من الآخرين، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو غير ذلك.
القصّة تختلف في الشرق الأوسط، وتكاد تكون عكس ذلك تمامًا. وأنا أصفها بأنّها معادية للقومية، بالمعنى السلبي. يميل الناس في الشرق الأوسط إلى الشك في السلطة وعدم الثقة في الحكومات. مع ارتفاع مستوى الفساد، والولاءات المشكوك فيها بين القادة والمسؤولين الحكوميين، تلاشت كلّ الثقة في السلطات الحكومية والقيادات السياسية. وقد أدّت هذه السنوات من شعور انعدام الثقة إلى فقدان أي شعور بالصالح العام. وبات الناس فرديين وانتهازيين للغاية يسعون وراء مصلحتهم الذاتية. وقد غذّى هذا الموقف الفساد أكثر وأدّى إلى تفاقمه. وتحوّلت الأمور إلى حلقة مفرغة.
نتيجة لذلك، فإنّ الموقف الافتراضي للكثيرين هو السعي للهجرة إلى بلدان غربية. وهذا ينطبق بخاصّة على المهنيين الشباب المتعلمين الذين يبحثون عن مستقبل اقتصادي مزدهر وأمن وسلامة لعائلاتهم. وإنّ التوتر السياسي وعدم الاستقرار المستمر في المنطقة يشجّعان هذا الموقف أكثر. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التوتر الديني الطويل الأمد يعطي العائلات المسيحية سببًا آخر للهجرة هربًا من المستقبل الغامض في سياق الأغلبية المسلمة.
لذا، بصفتي لبنانيًا كنديًّا، وتابعًا ليسوع المسيح، كيف أفكر في المواطنة؟ أين يجب أن يكمن ولائي وما هي واجباتي تجاه بلدي الأم والبلد الذي استقبلني في أحضانه؟ ماذا يقول الكتاب المقدس عن هذا؟
من المثير للاهتمام، أنّ كلمة “المواطنة”، المترجمة “وطننا” في الترجمة المشتركة، تظهر مرة واحدة فقط في الكتاب المقدس، في فيلبي 3: 20-21:
20أمّا نَحنُ، فوَطَنُنا في السَّماءِ ومِنها نَنتَظِرُ بِشَوقٍ مَجيءَ مُخلِّصِنا الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ. 21فهوَ الذي يُبَدِّلُ جَسَدَنا الوَضيعَ، فيَجعَلُهُ على صُورَةِ جَسَدِهِ المَجيدِ بِما لَه مِنْ قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها كُلَ شيءٍ.
كتب بولس إلى الكنيسة في فيليبي، التي كانت مستعمرة رومانية. كان مواطنو فيليبي يتمتعون بجميع حقوق المواطنين الرومان وامتيازاتهم ومسؤولياتهم، وكان من المُتوقَّع أن يعيشوا ويعززوا ثقافة الإمبراطورية الرومانية وعاداتها وقوانينها. علاوة على ذلك، حظي اليهود والمسيحيون اليهود في فيليبي بشكل من أشكال الحكم الذاتي داخل الإمبراطورية الرومانية. سُمِح لهم بإحضار ثقافتهم وعاداتهم وقوانينهم من فلسطين اليهودية. على هذا الأساس، أكدّ بولس أنّهم، شعب الله، ويتميّزون بنوع مختلف من المواطنة. إنّهم مستعمرة سماوية، يُتوقع منهم أن يعيشوا ويعززوا ثقافة السماء وعاداتها وقوانينها. رسم بولس بذلك تمازجًا صارخًا بين المواطنة الأرضية والسماوية.
في العهد القديم، رأى إبراهيم وآخرون أنفسهم غرباء، ونزلاء، حتّى في أرض الميعاد. في العهد الجديد، يؤكّد بطرس (1 بطرس 1) وكاتب العبرانيين (عبرانيين 11: 8-16) هذه النظرة. الكتاب المقدس في عهديه يوجّه أعيننا نحو السماء. ونجد في محور هذه النظرة تعاليم يسوع حول الملكوت، والتي تكشف عن توجهًا سماويًا قويًا.
في الواقع، الأمم والحكومات موجودة، وهي تحكم وفقًا لمجموعة متنوعة من أنظمة القيم. يعلّمنا الكتاب المقدس عن الخضوع للسلطة الحكومية. وهذا موضوع مهم، على الرغم من عدم وجود مساحة كافية هنا لمناقشة معالم هذا الخضوع. يكفي أن أقول هنا أنّني أؤمن أنّ الله وضع الحكومة لصالح جميع الناس. والسؤال هو، بغضّ النظر عمّا إذا الحكومات اليوم تقوم بدور الوكيل الصالح على سلطتها المستمدة أم لا، كيف نتصرّف كأتباع ليسوع؟ هل ثمة دور للكنيسة في تشكيل فهمنا وممارستنا للمواطنة الصالحة؟
أعتقد أنّ أحد الأدوار المهمة للكنيسة هو التأثير على نظام القيم الذي يعيشه الناس والحكومات. لدينا مهمة تقديم هذه النظرة السماوية إلى وعي مجتمعاتنا. يجب أن يكون للكنيسة صوت مميّز، صوت كتابي، مع توجه ملكوتي. دورنا هو أن نعيش ونعزّز ثقافة المواطنة السماوية وعاداتها وقوانينها. يجب أن يركّز الكثير من التعليم والوعظ على ذلك.
أعتقد أنّه بدلاً من رؤية الناس من خلال عدسة المواطنة والأمة، يجب أن نراهم من خلال عدسة إرسالية إبراهيم:
“وأُبارِكُ مُبارِكيكَ وأَلعنُ لاعنيكَ، ويتَبارَكُ بِكَ جميعُ عَشائِرِ الأرضِ” (تكوين 12: 3).
فإذا كُنتُم لِلمَسيحِ فأنتُم، إذًا، نَسلُ إبراهيمَ (غلاطية 3: 29).
أومن أنّه بدلاً من تقييم الناس من خلال قيمتهم “لمجتمعنا”، يجب أن نتعلّم من يسوع تنمية مجتمعات يمكن أن تسهم في الصالح العام لأكثر الفئات ضعفًا وتهميشًا، بغض النظر عن جواز السفر الذي يحملونه.
أومن أنّ الكنيسة يجب أن تأخذ على محمل الجد دور التربية المدنية، وإعداد شعب الله للمشاركة الناشطة في تشكيل حكمهم بدلًا من القبول الجامد لما يتمّ تقديمه لهم من أيدي أنظمة القيم غير الجديرة بالثقة.
أومن أنّ الكنيسة يجب أن تبادر في بدء هذه الأحاديث، بدل أن يتم جرّها إليها. تخسر الكنيسة عندما تعرّف نفسها بما هي ضدّه في العالم بدلًا بما هي لأجله في العالم.
ملاحظة: هذه نسخة منقّحة لمدوّنة نشرها معهد دراسات الشرق الأوسط في 27 تموز/ يوليو 2017.