بقلم مايك كون
السلعة – شيء يُشترى ويُباع.
الإرسالية – استجابة أتباع المسيح بفرح ومسيح لتلمذة الأمم، وإعلان حياة يسوع وتعاليمه بين جميع شعوب العالم.
نظريًا، يبدو أنّهما مفهومان متمايزان للغاية. أمّا في الواقع، فالإرسالية ترتبط إلى حدّ كبير بالموارد (المالية، والبشرية والمعلوماتية) التي تغذيها.
وثمة الكثير للاحتفاء به في هذه العلاقة بين الإرسالية والموارد. فعطاء كنيسة المسيح السخي يمكّنها من مساعدة الإخوة والأخوات في جميع أنحاء العالم لإعلان محبة المسيح معروفًا من خلال مساعدة الفقراء، والسعي لتحقيق العدالة للمضطهدين والمصالحة بين البشر والله بواسطة الإنجيل.
وعلى الرغم من كلّ الخير الذي تحقّق بفعل هذا العطاء السخي، فثمة أيضًا جانب مظلم لهذا الاعتماد المتبادل بين الإرسالية والمال. والمقصود هنا ليس فرض رقابة مشددة على مبادرات الخدمة التي تستفيد من التمويل الخارجي. إنّما هذه ملاحظة تحذيرية – نداء لممارسة تتماشى على نحو أفضل مع طبيعة الإنجيل – خبر سار لحياة جديدة تُعطى مجانًا.
وإليكم صورة تساعدنا على فهم هذه الفكرة. تخيّلوا الصحراء. عندما تأتي أمطار الربيع، يُهزم غبارها القاحل بسيل المياه الجارفة مما ينتج عنه تأثير مزدوج. من ناحية، فإنّ الطوفان يحرّك الحجارة والأنقاض لتصبح تهديدًا قاتلًا لأي شيء يقف في طريقها، سواء كان حياة حيوانية أو نفسًا بشرية من المتنزهين. من ناحية أخرى، يُفرَش غطاء نباتي أخضر بين عشية وضحاها فتتحوّل الصحراء وادٍ أخضر.
تمويل الإرسالية هو قوّة نافذة تغمر الشرق الأوسط كسيل أمطار الربيع التي يغمر الصحراء. إنّه قوّة تغيّر البيئة بأكملها، وأحيانًا إلى الأفضل، لكن ثمة إمكانية إلحاق ضرر كبير بالعمل الإرسالي. في هذه المدونة، سأفكّر في احتمالات الضرر التي قد تلحق الإرسالية بسبب ارتباطها بالتمويل.
سأحدد ثلاثة مجالات مثيرة للقلق قبل الإشارة إلى بضعة موارد للمزيد من البحث حول الموضوع.
دافع النتائج
يُرغم قادة الكنائس والإرساليات على التأكد من أنّ نتائج عملهم متناسبة مع استثمارهم للموارد سواء كانوا أفرادًا أو وقتًا أو مالًا. وبعبارات اقتصادية حرجة، نحن بحاجة إلى نتائج مقابل قيمة أموالنا المُستثمرة.
في الحقيقة يبدأ هذا بالاهتمام المفرط به بالوكالة على الموارد. ونشعر أنّنا بحاجة لأن نبدأ بالعد (نعد الكنائس المزروعة، والمؤمنين الجدد، والأطفال المتعلمين، واللاجئين الذين تمّ إيواءهم، إلخ) لنضمن استخدامنا للموارد على نحوٍ جيد. والبيانات ضرورية للحفاظ على الجهد المبذول. نحتاج إلى الإحصائيات والأرقام. غير أنّ افتتاننا بالبيانات غالبًا ما يحمل ثمارًا مشكوك فيها. فالأرقام يمكن التلاعب بها. والإحصائيات يمكن أن تتمدّد. وتُفصّل المبالغة على نحوٍ يتناسب مع المعايير التي وضعها “المستثمرون”.
أتذكر العمل مع شاب كان يدير خدمة إعلامية مسيحية. في تقرير مُقدّم إلى الهيئة المموِّلة، ضرب صديقي عدد الردود بطريقة غامضة بِـ 100. قرأت التقرير بصدمة ورعدة. في البداية، أنكر صديقي الإحصائيات الملفقة لكنه اعترف في النهاية أنّه يخشى أن يخسر التمويل فقام بتضخيم الأرقام.
الدافع للحصول على البيانات يشبه السيل الصحراوي بممارسته الضغط على سلسلة الإرسالية بأكملها، من الكنيسة المرسِلة إلى العاملين في ميدان الخدمة إلى الكنيسة والمؤمنين المحليين. والعمل يشبه إلى حدّ كبير سلسلة العرض والطلب، ما يؤدي إلى إحساس واضح بتسليع الإرسالية.
الإعلام وشبكات التواصل
للثورة المعاصرة في الإعلام تأثير هائل على الكرازة المسيحية في الشرق الأوسط ولها وجه صالح وآخر طالح في آنٍ معًا. تخبرنا الصور القصص وتحرّك مشاعرنا. الصور والأفلام التي تُلتقط خلال رحلات الخدمة ينتهي بها المطاف على وسائل التواصل الاجتماعي ومقاطع فيديو للكنيسة والخدمة. لا شكّ أنّ هذا المنبر فعّال. فهو يساهم في نشر الوعي ويحفّز على العمل. ولكن أين الضوابط الأخلاقية؟ هل يمنح الأشخاص الذي تُلتقَط صورهم إذنًا لاستخدام صورتهم بهذه الطرق وما الفائدة المادية التي يستمدونها؟ هل لديهم فكرة حتّى حول كيفية استخدام صورتهم؟
أجد دليلا على التسليع في الحقل المعجمي لإرساليتنا. في بعض الأحيان عندما أسمع حديثًا لمنظري الإرساليات وممارسيها، أتساءل عمّن هم خارج المجتمع الإرسالي (بما في ذلك الأشخاص المحليين) ما إذا كان بإمكانهم فهم ما يتحدّث عنه هؤلاء المرسلون. ويتضمن هذا الحقل المعجمي مصطلحات مثل DBS وDMM وC1 – C5 وحركة من الداخل وترجمات من الداخل وMBB وBMB وCBB والتسييق وCPM وتطول القائمة.
لا شكّ أنّ هذه المصطلحات والمختصرات التقنية يمكن أن تكون اختزالًا مفيدًا في التواصل. غير أنّها يمكن أن تصبح أفكارًا استقطابية تثير جدالًا لا ينتهي بيننا. غالبًا ما تكون كلمات شيفرة – لغة يمكن أن يفهمها آخرون في المجال نفسه، وتساعد في تحديد الوسائل التي تستخدمها إرساليتنا وتقييم نتائجها.
فلنأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه المصطلحات تُستخدم لتسمية أشخاص … أشخاص حقيقيين قد لا يختارون تحديد هويتهم بهذه الطريقة أبدًا. في الواقع، لا ينشأ أيّ من هذه المصطلحات من شعوب الشرق الأوسط (سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين) أو من لغّاتهم. جميع هذه المصطلحات مستورد من مجتمعات مُستفيدة اقتصاديًا وتعليميًا، ويتم تطبيقها على أهداف دراستنا و”إرساليتنا”. وتصبح لغتنا نفسها أداة لتصنيف الآخرين في فئات في محاولة منّا لوصف إنتاجيتنا. فنحن، عن غير قصد، نسلّع أولئك الذين نحن مُرسلون لنخدمهم ونحبّهم.
فهم ضحل لسياق الشرق الأوسط
لقد سمعت مؤخرًا محادثة مع أحد قادة الكنيسة في شمال إفريقيا – وهو شخص أمين وواضح لا يُشك في شغفه واهتمامه بكنيسة المسيح. تحدّث عن المُرسلين الأجانب الذين يدخلون إلى رعيّته الصغيرة، ويسلبون منها المؤمنين لبدء كنيسة أو حركة جديدة. وأشار إلى أنّ هؤلاء الخدّام الأجانب يتعرضون لضغوط من كنائسهم أو ومؤسساتهم لتحقيق النتائج. وتتعارض المصالح القصيرة الأجل لهذه المؤسسات الإرسالية مع الرؤية الطويلة الأجل للكنيسة المحلية. وللأسف النتيجة البارزة هي اندثار تلك الكنيسة. لقد لاحظ أنّ الدافع لإقامة “حركة زرع الكنائس” يفسد نسيج الكنيسة في بلده. يا للسخرية!
لقد اندهشت مؤخرًا من ردّة فعلي الداخلية تجاه زائرة غربية أعربت عن سعادتها إزاء العديد من قصص التحوّل. بالنسبة لهذا الزائر المتحمسة، لقد تمّ الوصول إلى الهدف المنشود. “خلُصت الأرواح”. غير أنّني فكرت على الفور في التداعيات الأسرية والمجتمعية التي يجب معالجتها وجها لوجه في التلمذة. لقد رأيت الكثير من التحديات أمامنا ووجدت نفسي أتساءل عمّا إذا كان سيتم تشجيع هؤلاء المؤمنين الجدد في التلمذة الطويلة الأمد على غرار التشجيع الذي تلقّوه إبّان تحوّلهم إلى جماعة جديدة.
ثمة أمثلة كثيرة على هذا الفهم الضحل لسياق الشرق الأوسط. على سبيل المثال، ثمة عدد هائل من الكتب للرعاة والقادة المسيحيين الغربيين التي تُترجم إلى اللغة العربية وتُوزَّع على نطاق واسع في الشرق الأوسط. لا شكّ أنّ العديد من الكتب المترجمة كانت مصدر بركة كبيرة في المنطقة. غير أنّه نظرًا لأنّ الكتب المسيحية في الشرق الأوسط لا تحقق أرباحًا في العادة، فإنّ المنشورات المسيحية لا تستمر إلّا إذا كانت لديها رعاية مالية قوية. لذلك، فإنّ الخدمات المُنعم عليها في العالم الذي هي التي تتمتع بميزة اقتصادية تمكنهم من ترجمة كتبهم ونشرها بأشكال جذّابة. وفي الوقت نفسه، ثمة العشرات، وربما المئات من المؤلفين المحليين والكتّاب الطموحين الذين لن تُبصِر أعمالهم النور أبدًا، أو قد توزّع بحدّ ضئيل بسبب قلة أو عدم وجود دعم مالي لمنشوراتهم. في نهاية المطاف، تضحي الكنيسة مع رفوف من الكتب التي تتناول قضايا ذات أهمية كبيرة في المجتمعات الغربية فقط. قد نعيق تطوير الكتّاب المحليين الذين يتناولون القضايا المحلية بدلاً من تعزيزهم من خلال جهود إرساليتنا.[1]
فحص التسليع
لفحص من هذا التوجه إلى تسليع الإرسالية، يجب أن نكون على دراية واهتمام.
قال الرسول بولس عن نفسه وعن فريق خدمته:
بَلْ كُنَّا مُتَرَفِّقِينَ فِي وَسَطِكُمْ كَمَا تُرَبِّي الْمُرْضِعَةُ أَوْلاَدَهَا، هكَذَا إِذْ كُنَّا حَانِّينَ إِلَيْكُمْ، كُنَّا نَرْضَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ، لاَ إِنْجِيلَ اللهِ فَقَطْ بَلْ أَنْفُسَنَا أَيْضًا، لأَنَّكُمْ صِرْتُمْ مَحْبُوبِينَ إِلَيْنَا. (1 تسالونيكي 2: 7-8)
كانت علاقة بولس مع أهل تسالونيكي شخصية عميقة، مبنية على فهم شامل لسياقهم بالإضافة إلى محبة الأب الروحي. إذا كنّا نهتّم، فسوف نحافظ على كرامة أولئك في الطرف المتلقي لجهود إرساليتنا. سيكون اهتمامنا شموليًا، من أجل رفاههم، وليس فقط خلاصهم. سنمتنع عن استخدامهم كأشياء في سعينا للدفاع عن كنيستنا أو خدمتنا أو فكرتنا والترويج لها.
من غير المرجح أن تظهر خدمة من هذا النوع بصورة “مثيرة”. قد تتحرك أبطأ لأنها تسعى إلى ضمان المعاملة بالمثل الصحية. من غير المرجح أن يكون الحصول على التمويل هو الأولوية. غير أنّها ستجسّد تمثيلًا حقيقيًا للمخلص الذي وصل إلينا في أقصى غربتنا كي يصالحنا ويعيدنا إلى كنف العلاقة معه. وبذلك تكون خدمة الإنجيل.
ملاحظة: هذه نسخة منقّحة لمدوّنة نشرها معهد دراسات الشرق الأوسط في 20 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2016.
[1] أنا ممتن لبعض المنظمات المسيحية مثل Langham Partnership التي تكسر المألوف من خلال السعي لتعزيز المنح في العالم النامي.
2 Comments
شكرا دكتور مايك للمقال الجميل. نطوق ان نرى تحول في علاقتنا مع الارساليات الموجودة في العالم الاسلامي وان تكون الشراكة اعمق من مجرد ارقام تحسب ولكن شراكة محبة تسعى لتطوير الكنائس المحلية ومساعدتها على خلق موارد تساعدها على القيام بدورها وبتمويل محلي، كما نتمنى ان يكون الاهتمام بالخادم قبل الاهتمام بالخدمة نفسها.
اعلم ان الامر صعب فالكل يريد تقارير تبهر الداعمين. ولكن ملكوت الله يبنى بالتروي والعمل الدؤوب وخاصة في عالمنا الاسلامي.
شكرًا يا أخي العزيز على مجاوبتك الحسنة مع المقالة. لا شك ان الشراكة المتساوية بين الكناشس في امر تنفيذ إرسالية المسيح في غاية الأهمية والصعوبة. ارى ان التمويل يمثل جزءً مهمًا لهذه الشراكة لكنه يُمارس في بعض الأحيان كاسلوب سلطة شئنا ام ابينا. نود ان كنائس الغرب تعي بهذه السلطة وان تأخذ المبادرة لتجنبها حتى نعيش الاخوة التي يعبر عنها الكتاب المقدس. اتمنى انك في سلام المسيح وحفظه الدائم.