بقلم مرتان عقّاد
المفهوم الخاطئ الثالث: القرآن يعلّم المسلمين أنّ الكتاب المقدّس محرّف
سوء الفهم الثالث هذا استمر طويلًا في المحادثات المسيحية الإسلامية، سواء على المستوى الشعبي أو العلمي. يحتوي القرآن على عدد من المقاطع التي تحتوي على الفعل “حرّف” في حديثه عن الكتاب المقدس اليهودي المسيحي. ونتيجة لذلك، فإنّ الاعتقاد بأن القرآن يتهم اليهود والمسيحيين بتحريف كتبهم المقدسة وتغييرها هو غالبًا ما يشكّل الأساس لكلّ من الحجج التهجمية الإسلامية والدفاعية المسيحية في المجادلة بين بعضهما البعض.
من خلال نهج “تاريخ الأفكار” الذي اعتمدته في الفصلين السادس والسابع من كتابي “سوء الفهم بنوايا حسنة”، أتّبع قصة الاستخدام الإسلامي لاتهام التحريف. ما يظهر جليًا هو أنّه حتى القرن الحادي عشر، ما اتهم به اللاهوتيون المسلمون اليهود والمسيحيين هو تحريف المعنى. فقط من القرن الحادي عشر فصاعدًا بدأوا في اتهامهم بالتحريف اللفظي، أي تحريف النّص. بمعنى آخر، خلال القرون الأربعة الأولى من المواجهة، اعتقد المسلمون أنّ تفسير المسيحيين الخاطئ لنصوصهم هو الذي أودى بهم إلى عقائد غير مقبولة حول المسيح. غير أنّه بمجرّد تغيّر الوضع السياسي، ومع ظهور الحروب الصليبية في الشرق واستعادة إسبانيا الأندلسية في الغرب، بات التفاعل اللاهوتي بين المسلمين والمسيحيين قاسيًا بسبب الصراع السياسي.
بالإضافة إلى هذه الحقيقة أنّ المسلمين لم يعتبروا حتّى القرن الحادي عشر أنّ الكتاب المقدس محرّف، فإنّني أوضح في الفصل السادس من كتابي أنّ العديد من اللاهوتيين المسلمين وضعوا بالكتاب المقدس بمكانة عالية. والبعض، مثل المؤرّخ اليعقوبي في القرن التاسع، استخدمه كمصدر موثوق للمعلومات التاريخية. وذهب آخرون إلى حدّ استخدام آيات من الكتاب المقدس لدعم حججهم اللاهوتية الإسلامية، مثل اقتباس ابن قتيبة لآيات من الأناجيل خلال القرن نفسه لإثبات صحة بعض تقاليد الحديث في دحض رأي خصومه المعتزِل. هذه ليست مسائل صغيرة، لا سيّما بالنظر إلى المكانة المحترمة لهؤلاء العلماء ضمن التقاليد الإسلامية.
هذه الأدلّة، وعلى الرغم من أنّها قد لا تقنع كلّ مسلم اليوم بأنّ الكتاب المقدس ليس محرّفًا، غير أنّها تبيّن أنّ الكتاب المقدس كان يحظى بتقدير كبير ويستخدم كنصّ موثوق به في الكثير من نواحي التقليد الإسلامي. وهذا يتماشى مع الغالبية العظمى من الآيات القرآنية التي تشيد بالكتاب المقدس اليهودي المسيحي كسالف لرسالة القرآن والتي تؤكّد أنّ المسلمين يجب أن يشيروا إلى هذه الكتب المقدسة على أنّها تأكيد للكتاب الذي تلقوه. لا شكّ أنّ الإقرار المبسَّط أنّ القرآن يعلّم أنّ الكتاب المقدس محرّف هو مفهوم خاطئ بين المسلمين والمسيحيين يجب مواجهته. والرأي السائد بين مسلمي اليوم بأنّ الكتاب المقدس محرّف يمكن تحدّيه بثقة استنادًا إلى سابقة تدحض هذا الافتراض في نصّهم المقدس وتقاليدهم الدينية التاريخية.
المفهوم الخاطئ الرابع: تعمّد محمّد تقويض اليهودية والمسيحية
كما سعى المسيحيون لفهم قصد محمّد وهدفه من تأسيس دين الإسلام، فقد اعتنقوا – في بعض الأحيان دون وعي – الفرضية القائلة بأنّ محمّد بدأ منذ البداية بجدول أعمال متعمّد واضح لتقويض اليهودية والمسيحية وإسقاطهما لصالح إنشاء دينه الجديد أي الإسلام. المقاطع القرآنية التي تثني على اليهودية والمسيحية، وتلك التي يقدّم فيها محمّد رسالته كاستمرارية وإقرارًا للنصوص المقدّسة السابقة، تُعتبَر إمّا جزءًا من مخطّط جدلي أكبر، أو قد تمّ إلغاؤها (أي تصحيحها، تغييرها أو استبدالها) من خلال المزيد من الآيات السلبية التي كُشفت لاحقًا في التسلسل الزمني لظهور القرآن.
بغية تحدّي سوء الفهم هذا، أقدّم في كتابي دليلًا على أنّ مخطط أسباب النزول بأكمله يقوم على أساس حديث غير موثوق، وتقاليد نُسبَت إلى محمّد والتي نتيجة للدراسات النقدية الغربية في القرن العشرين لم يعد من الممكن اعتبارها موثوقة تاريخيًا. وبالتالي لم يعد بالإمكان إثبات الحجة التي مفادها أنّه في السنوات اللاحقة (في الفترة المسماة المدنية)، تلقّى محمد وحيًا ألغى آيات سابقة أكدّت امتداد رسالته كاستمرارية لرسالة اليهود والمسيحيين.
بدلاً من الشروع في إنشاء دين جديد ليحلّ محلّ اليهودية والمسيحية، أعتقد أنّ محمّد قصد أن تكون رسالته نوعًا من التفسير وإعادة تفسير للتقليد اليهودي المسيحي في اللغة العربية التي يستطيع معاصروه العرب فهمها. وبالتالي يجب أن يُنظر إلى القرآن، من هذا المنظور، على أنّه نوع من المدراش العربي للكتاب المقدس، وليس على خلاف المدراش اليهودي الذي كان يهدف إلى تقديم إيضاح سياقي للتوراة في الأوقات المتغيرة. بعيدًا عن الرغبة في تقويض اليهودية والمسيحية، علم محمّد أنّ معاصريه العرب سيتقبّلون رسالته ويفهمونها فقط إذا ما اعتُبِرت استمرارًا وتأكيدًا للتقليد اليهودي المسيحي. كان خلافه مع بعض العقائد ضمن هذه التقاليد وليس مع التقاليد نفسها.
المفهوم الخاطئ الخامس: الإسلام الحقيقي عنيف ويريد السيطرة على العالم
المفهوم الخاطئ الأخير والخامس، هو قناعة المسيحيين بأنّ الإسلام الحقيقي الوحيد هو الإسلام العنيف، وهو من أكثر التحديات التي نواجهها في هذه الأيام. إنّ سلوك المسلمين المتطرفين والعنيفين خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين عزّز عند الكثيرين أنّ المسلمين يسعون جاهدين نحو أجندة عالمية مشتركة للسيطرة على العالم، وإقامة خلافة عالمية موحّدة، وإقامة حكم الشريعة الاسلامية. على الرغم من أن الأعمال الإجرامية لجماعات مثل داعش أو القاعدة مروّعة للغاية بالنسبة لنا جميعًا، إلّا أنّ البعض في الأوساط المسيحية يشعرون بشيء من الامتنان أنّه من خلال هذه الجماعات كشف الإسلام أخيرًا عن “وجهه الحقيقي”. ويجادل هؤلاء أنّ معرفة طبيعة عدوك الحقيقية أفضل من اعتناق مجرّد شكوك. يشعر الكثيرون أنّه وأخيرًا تبرّرت شكوكهم التي ما كانوا دائمًا يفكّرون فيها حول الطبيعة الحقيقية للإسلام.
المشكلة في هذا الجدل هي استناده إلى منطق المجموع الصفري. ما الذي نكسبه من القول بأنّ الإسلام “الحقيقي” هو إسلام عنيف وأنّ المسلمين الذين يؤكدون أنّ الإسلام دين مسالم يشوّهون وجه الإسلام الحقيقي؟ إذا ارتكب بعض المسلمين العنف باسم الإسلام، فإنّنا ندين سلوكهم. وإذا أدان مسلمون آخرون هذه الأعمال العنيفة بأنّها غير إسلامية، فإننا نتّهمهم بالكذب. في الواقع، فإنّ المسيحيين الذين يقولون أنّ الإسلام الحقيقي الوحيد هو الإسلام العنيف، يدعمون الأيديولوجية العنيفة للمتطرفين المسلمين.
ما أقوله في “سوء الفهم بنوايا حسنة” هو أنّ العقائد الدينية مستمّدة دائما من الكتب الدينية وأنّ الكتب الدينية تخضع دائما لتفسير محدّد في وقت ومكان محدّدين. فمن الواضح أنّ السياق السياسي والاجتماعي يلعب دورًا أكبر في تشكيل الخطاب والسلوك الديني أكثر من دور النّص الديني. يخضع دور النّص الديني في تشكيل الخطاب والسلوك دائمًا لتفسير محدود ومؤقت.
أود أن أختم أنّه لا يمكن القول بأنّه ليس من دين عنيف بالمطلق أو سلمي بالمطلق. وجميع الأديان مرّت بفترات تاريخية تجلّت فيها بأعمال عنفية. وعلى العكس من ذلك، يمكن أن يوجّه اللاهوتيون كلّ دين ليظهر في سلوك سلمي ومحب تجاه قريبه. هذا هو دور اللاهوتيين في كلّ يوم وعصر. ولهذا السبب يتحمّل اللاهوتيون اليهود والمسيحيون والمسلمون، وكذلك اللاهوتيون من الديانات الأخرى، مسؤولية مهمة في المشاركة في حوار لاهوتي مفتوح وبنّاء من أجل الصالح العام لمجتمعاتنا العالمية.
ملاحظة: