بقلم شادن هاني
الخبر
يشهد لبنان حاليًا حراكًا احتجاجيًا جماهيريًا غير مسبوقة في وجه الطبقة السياسية الحاكمة بسبب الإخفاقات التي أدّت إلى تصاعد أزمات اقتصادية واجتماعية قوّضت أسس العيش الكريم للمواطنين. شهد هذا الحراك أشكالًا عديدة من الإضرابات تضمنت إقفال البنوك والمدارس والجامعات وكذلك الشركات والمؤسسات الخاصة. لا يمكننا أن نتغاضى عن مشهدية الوحدة التي جمعت الشعب اللبناني بمختلف طوائفه على امتداد ساحة الوطن في التظاهرات ضد السلطات الحاكمة، وهو الشعب الذي لطالما كان رهينة الانقسام والطائفي. خرج الشعب إلى الشارع جنبًا إلى جنب، متجردين من انتماءاتهم الطائفية كي يعبّروا عن ازدراءهم لطبقة سياسية أخفقت في أدائها وخلقت نظام حكم لم يلبّي مصالح الشعب. تركت هذه الثورة الشعبية البلاد في حالة من الشلل بسبب قطع الطرق الرئيسة ما أجبر رئيس الحكومة على تقديم استقالته وبالتالي استقالة الحكومة.
تأتي موجة الاحتجاجات في الوقت الذي يواجه فيه لبنان إخفاقًا في الإدارة المالية ما جعله يُصنّف من ضمن البلاد التي يترتب أعلى نسبة دين في العالم، والتي تُقدّر بأكثر من 150٪ من الناتج المحلي الإجمالي. يهتف المتظاهرون علانية ضد فساد الحكومة بما في ذلك شبكات لمحسوبية التي تسيطر على الاقتصاد وتخنق الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الضرورية لإنقاذ البلاد. فقد أدّى فشل الأداء الحكومي إلى مشاكل تمّس حياة المواطن اليوميّة مثل أزمة النفايات المستمرة والمكبات العشوائية، أزمة انقطاع التيار الكهربائي المزمنة، زيادة الضرائب على الفوائد، توقف صرف المعاشات التقاعدية وأزمة سلسلة الرتب والرواتب. ويواصل المواطن اللبناني كفاحه للحصول على عمل محترم يضمن له أساسيات الحياة الكريمة، حيث أنّ قياس مستوى المعيشة حسب مؤشر تكلفة المعيشة صنّف بيروت في المرتبة الرابعة بين 21 مدينة عربية وفي المرتبة 157 من بين 377 مدينة حول العالم.
في غضون أيام من اندلاع الاحتجاجات، اقترح رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، ورقة إصلاحية تهدف إلى تخفيف الأزمة الاقتصادية وتضمنت ميزانية معتمدة لعام 2020 من شأنها أن تقلّص العجز في لبنان إلى 0.6 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي. غير أنّ المتظاهرين في جميع أنحاء لبنان رفضوا قبول هذا العرض جملةً وتفصيلاً وقرروا الاستمرار في مطالبهم التي تنصّ على استقالة الحكومة، انتخابات نيابية مبكرة، استرجاع الأموال العامة المنهوبة من قبل الطبقة السياسية وشركائها.
التحليل
بعد حوالي ثماني أشهر من المفاوضات الدؤوبة، أعلن رئيس الوزراء سعد الحريري في تاريخ شباط/فبراير 2018 تشكيل الحكومة الحالية التي تضم ثلاثين عضوًا، والتي وعدت بالإصلاحات السياسية والاقتصادية للبلاد. هذه الوعود لم تحقّق أي تحسّن ملموس في حياة المواطن ولم تستطيع الحدّ من الفساد الحكومي المستشري. فبدلاً من الإصلاح الحقيقي، تمّ اقتراح تدابير تقشّفية من أجل الحفاظ على الاقتصاد والحدّ من احتمالات الانهيار المعيشي.
المتظاهرون يرفعون الصوت عاليًا في وجه تدنّي نوعية الحياة المتوفرة لهم، مثل التفاوت الحاد في الدخل، إجراءات التوظيف غير العادلة من قبل مؤسسات الدولة، صعوبة إيجاد فرص عمل وضعف في أنظمة الدولة الصحية والتربوية. الشعب اللبناني فقد الثقة في قادة الدولة، وهم اليوم يصرخون في وجه الظلم الذي تحملّوه لفترة غير قصيرة. فالظلم الذي تمارسه الحكومة ضد شعبها هو حين تفشل الدولة في تأمين حقوق المواطن وحاجاته الأساسية التي توفّر له حياة كريمة. وما يزيد من قساوة الظلم ممارسة المحسوبيات والتمييز الطائفي في نظام تحكمه الطائفية السياسية.
يقابل السياسيون هذا المشهد الثوري بسكوت غير اعتيادي، وكأنّما لا يكترثون في اعتبار وجع من انتخبهم في مناصبهم. في المقابل يحاولون كسب الوقت من أجل إقرار القوانين التي قد تعيد الثقة التي فقدوها من الشعب. غير أنّ الشعب اللبناني بأغلبيته كما يبدو قد فقد الأمل في نظام الحكم المستمر منذ ثلاثين سنة. اليأس والخيبة يغذيان هذه الثورة إلى حين تدخل الله.
التأمل اللاهوتي
التفاعل العاطفي ضد الظلم هو استجابة إنسانية تلقائية. في إنجيل يوحنا 10:18، نقرأ عن ردّة الفعل العنيفة لبطرس بقطع أذن خادم رئيس الكهنة في بستان جثسيماني الذي جاء لإلقاء القبض على يسوع وهذا ما اعتبره بطرس ظلمًا. انتهر يسوع ردة فعل بطرس واختار أن يسلّم نفسه للصليب طاعةً لإرادة الله وتضحيةً تكرّم الآب وتعيد العلاقة بين الله والانسان. الاستجابة للظلم تتطلب الاستعداد لتحمل الألم. هل رجال السياسة اللبنانيون على استعداد للتضحية بمصالحهم من أجل إحقاق العدالة تجاه من ائتمنوهم وانتخبوهم ممثلين عنهم؟ هل هم على استعداد لمواجهة الناس بالفشل الذي انتجته إدارتهم؟ هل الشعب اللبناني اليوم مستعد أن ينتخب قيادة نزيهة تعزز تطلعاته؟ هل يستطيع الشعب أن يحافظ على مكاسب الثورة ويستمر في سعيه إلى الغاء الطائفية وتكريس الفكر والحسّ الوطني المشترك واختيار قيادات مؤهلة؟
يتناول اللاهوتي اللبناني غسان خلف في كتابه “الله والسياسيون” القيم الأخلاقية التي يجب أن تميّز القادة السياسيين. يقول أنّ القائد السياسي عليه أن يتمتّع بالحكمة وأن يوازن بين العدالة والرحمة. خلال السعي لتحقيق العدالة، من الضروري أن نفتكر بالخير الذي يأتي نتيجة إظهار الرحمة (أمثال 3:3-4) ” لا تدع الرحمة والحق يتركانك. تقلدهما على عنقك. اكتبهما على لوح قلبك، فتجد نعمة وفطنة صالحة في أعين الله والناس.” الشعب اللبناني بحاجة إلى الرحمة من حكّامه، والقائد الكفوء يعتمد مبدأ خدمة الآخرين وليس خدمته الشخصية. هذه الخدمة تحفظ كرامة المواطنين وتعزّز الاحترام والثقة في القيادات التي تم انتخابها لتمثيل الشعب.
التوصيات الإرسالية
قبل الانتخابات البرلمانية عام 2018، قامت الكنيسة المحليّة اللبنانية بدور مهم في توعية جماعاتها حول معايير انتخاب المرشحين مثل الأمانة والأخلاق والاستعداد للخدمة. منذ تلك الانتخابات، توقف نسبيًا الكلام عن موضوع الأداء الحكومي وفعاليته ولم يعد محور اهتمام الأغلبية، لذلك ثمة حاجة اليوم أن تعاود الكنيسة المحلية حوار التوعية حول مهارات القيادة وتدريب الشبيبة على النماذج الناجحة في القيادة والخدمة، مع العمل على تقديم نموذج حقيقي في القيادة الخادمة. اليوم يتطلب الوضع الحالي عمل الكنيسة على تفعيل التغيير الحقيقي والتعليم عن قيم الملكوت وأخلاقيات الملكوت وحث شعب الكنيسة على عيشها وتطبيقها في كافة ميادين الحياة اليومية. وبذلك نستأصل جذور الفساد وتصبح الكنيسة النموذج لمستقبل واعد للأجيال القادمة.