بيروت، بوليفيا، بغداد، الجزائر، تشيلي، وهونج كونج
نوفمبر 28, 2019
“هذا ما يريدونكم أن تصدّقوه”
ديسمبر 5, 2019

مدوّنة سوريا – ديسمبر/ كانون الأوّل 2019

يكشف التوغل التركي في شمال سوريا عن قصة فداء للشعب الكردي

بقلم مرتان عقّاد

 

الخبر

في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2019، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب بدء سحب القوات الأميركية من الشمال السوري، حيث كانوا يقدمون دعمًا جوّيًا أساسيًا للقوات الكردية على الأرض في الحرب ضد داعش. بحلول 9 تشرين الأول/أكتوبر، كانت القوات التركية قد بدأت هجومها في سوريا، وكان قد شُرِّد أكثر من 60000 سوري، ووكالات الاستخبارات تحذّر من إعادة تنشيط مقاتلي داعش ومن إمكانية الهروب لما يصل إلى 100 سجين من داعش كانوا تحت حراسة “القوات الديمقراطية السورية.” يلخّص عنوان مقال نُشر مؤخرًا في مجلّة “الأتلانتيك” في 25 تشرين الأول/أكتوبر واقع الحال: “دونالد ترامب، الذي تعهد بإخراج قوّاته من سوريا تمامًا، تكبّد جميع التكاليف الاستراتيجية دون الحصول على أي من المنافع السياسية.”

التحليل

إنّ الرواية السائدة التي ظهرت بعد إعادة الانتشار العسكري الأميركي صوّرت هذا الفعل من قِبَل الكثيرين كخيانة أميركيّة لحلفائهم الأكراد في المنطقة، والذين من المرجح أن يواجهوا الآن عمليات انتقامية شديدة من القوات التركية، العازمين على إنشاء “منطقة آمنة” على حدودهم الجنوبية الشرقية. حتّى أنّ السيناتور ليندزي غراهام، وهو من أكثر أنصار ترامب ولاءً، قام بالتغريد في 9 تشرين الأوّل/أكتوبر: “صلّوا من أجل حلفائنا الأكراد الذين تم التخلي عنهم دون خجل من قِبَل إدارة ترامب. هذه الخطوة تضمن عودة نشوء داعش.”

من المحتمل أن تكون هذه المواقف، وخطاب الخيانة، قد تطوّرت من تصوير شائع للأكراد بين المسيحيين حول العالم. فقد أصبح من المعتاد في وسائل الإعلام العالمية في السنوات القليلة الماضية تصوير القوات الكردية كأبطال في حماية الأقليات الدينية، وتصوير المناطق الواقعة تحت سيطرتهم كملاذات للحريّات العامّة ولحرية العبادة للمسيحيين. وقد اعترف ستيبان بيليجيان في مجلة “الأسبوعيّة الأرمنيّة” (Armenian Weekly) بعد التطورات الأخيرة بأنّ “وحدات حماية الشعب” (YPG) – وهي ميليشيا كردية سورية – و”البشمركة” في العراق “دافعت عن الجماعات الأرمنية ضد داعش في تلك المناطق.” لكن بالنسبة لأولئك الذين لديهم دراية أكبر بتاريخ القرن العشرين، ثمة أمر على ما يبدو من الواقع الساخر في هذه القصة. كما تشير مؤخّرًا الباحثة الأكاديمية مورجان هانتر في مقال لها على موقع Antiwar.com، إنّها حقيقة معروفة لمعظم الناس في الشرق الأوسط أنّ “من بين أكثر المشاركين حماسة في المذابح الأرمنية عام 1915 كانوا رجال قبائل كرديّة مسلمة يسكنون إلى حدّ كبير مناطق الأناضول نفسها التي كان يسكنها الفلاحون الأرمن المسيحيون.” ويتفق بيليجيان معها، مؤكدًا أنّ “تواطؤ العديد من الأكراد (في هذه المذابح) هو حقيقة تاريخيّة.” على الرغم من إدراكه أيضًا بأنّ “الكثير من الأكراد أنقذوا بعض الأرمن قبل 100 عام.”

القوة الوحشية التي استخدمها الجيش التركي أثناء توغله في شمال سوريا منذ تشرين الأول/أكتوبر لها بالتأكيد عواقب وخيمة على كلّ من الأقليات الكردية وغيرها من الأقليات في المنطقة. لكن من المشروع أن نسأل أنفسنا عمّا إذا كان المسيحيون سيكونون في وضع أفضل تحت سلطة كردية على المدى الطويل، كما يدّعي الكثيرون. للتحقّق في ذلك، قابلتُ أحد الأكراد السوريين، المعتنق المسيحيّة، والذي هو أصلاً من مدينة عفرين في شمال غرب سوريا. وقد زار القس نهاد الحسن مدينة القامشلي مؤخرًا في محافظة الحسكة الشمالية الشرقية، وكان جزءًا من مبادرة إنسانيّة قامت بها مجموعة من كنيسة زارت اللاجئين الذين نزحوا بسبب الهجوم التركي الأخير. لم يتّخذ القس نهاد أسلوبًا سرّيًّا أو حذرًا بشأن إيمانه المسيحي في وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرًا بصراحة إلى خدمته الرعوية بين اللاجئين السوريين في لبنان. رسالته هي رسالة صريحة من المحبّة والتسامح والرحمة، على غرار حياة المسيح وتعاليمه. وكان لخطَبِه المنتظمة باللغة الكردية، المنشورة على صفحته الشخصية على فيسبوك، أثر كبير على أهل المناطق الكرديّة حتى استوقفه بعض أصحاب المتاجر والمارّة في القامشلي الذين عرفوه وعبّروا له عن مدى تشجيعهم برسالته.

وصف لي نهاد الأجواء بين المسيحيّين في شمال سوريا بأنّها أجواء من الخوف والحذر بعد التوغّل التركي. فتحدّث إليه الكثيرون عن الهدوء السلمي – وإن كان هشًّا – الذي عاشوه منذ أن سيطرت القوى المسلّحة الكردية على المنطقة بعد بدء الحرب السورية. غير أنّهم الآن قلقون على مستقبلهم.

هل من الممكن إذًا أنّ المجتمع الكردي يختبر حالة من التحوّل والافتداء منذ فظائع عام 1915؟ القس حسن يعتقد ذلك. وهو يعتقد أنّ الأعمال القاتلة التي ارتكبتها بعض الجماعات السنية المسلحة في السنوات الأخيرة باسم الإسلام ضد المجتمعات السورية بكافة أنواعها قد ساهمت في القضاء على التطرّف بين العديد من الأكراد المسلمين. أصبح الكثيرون مهتمين ببشارة الإنجيل وقد تبنّى العشرات، ولا سيّما في لبنان، رسالة المسيح السلمية.

في عام 2015، بمناسبة ذكرى مرور مائة عام على الإبادة الجماعية للأرمن في مدينة ديار بكر في جنوب شرق تركيا، نشرت “الإذاعة العامة الدولية” (PRI) مقالًا يوثّق بداية عملية توبة كردية عن دور أجدادهم في ارتكاب هذه الفظائع. وتقول الناشطة الكرديّة نوركان بيسال نقلاً عن الإذاعة: “شعر الكثير من الأكراد بالخجل من ذلك (مشاركتهم في المذابح)”. “وأنا لقد شعرت بالخجل من ذلك.” وتضيف، “أنا أسافر كثيرًا، وعندما أقابل الأرمن، أعتذر دائمًا عمّا فعله الأكراد بهم.” يوافق السياسي الكردي عبد الله دميرباس، وهو رئيس البلدية السابق لبلدة ديار بكر القديمة، على أنّ الأكراد يتحمّلون مسؤولية أخلاقية تتطلّب الاعتذار عن دورهم في المذابح الأرمنية والسريانية، وهم الآن يعملون على تطوير وعي وطني جديد. ويصرّح دميرباس في مقال الـ PRI: “جزء من هذه الرؤية هو الاعتذار عن دورنا في الإبادة الجماعية، صمتنا يجعلنا مذنبين.”

انعكاسات لاهوتية وإرسالية

ويشير المقال السابق الذي كتبه ستيبان بيليجيان إلى أنّه “في تركيا (أرمينيا الغربيّة)، مرّ الأكراد بسنوات عديدة من الندم العلني للماضي وبجهود جديرة بالثقة في الوقت الحاضر.” رسالة بيليجيان هي دعوة للشباب الأرمن للعيش بناءً على القيم المسيحية للتسامح والفداء من أجل التخلّص من مرارة التاريخ. يقول: “إذا ما قصدنا التعاطف الإنساني، لن يخدم ذلك مسؤوليتنا الأخلاقية فحسب، بل سيفيد ذلك أيضًا جهودنا في الانخراط مع الناس الذين تجنبناهم في الماضي.” يعلّق بيليجيان الأمل في التغييرات التي تحدث حاليًا بين الشباب الأرمن، ويختم مقاله بالتعبير عن رؤيته لمجتمعه: “سيكون من الحكمة لجميعنا أن نفتح عقولنا ونسمح لريح الرحمة الإنسانية المنعش أن يرشدنا. تلعب كنيستنا دورًا رئيسيًا في تعليم الرحمة كقيمة أساسية.”

القس نهاد الحسن هو جزء من جيل جديد من الأكراد الذين فتحوا قلوبهم للتوبة ولقوة المسيح الفادية. على الكنيسة العالمية أن تستجيب لدعوتها للصلاة ولدعم جهود هذا المجتمع الناشئ من أتباع المسيح. إنّ قصة العنف والغفران والفداء بين الأكراد والأرمن والسريان والأقليات الأخرى، وسط الأحداث السياسية المضطربة التي تتكشف حاليًا في شمال سوريا، هي قصة قد تجذب انتباه العالم. يقول السيّد المسيح، نقلاً عن الإنجيل كما دوّنه القدّيس يوحنا في الفصل ١٣: “أعطيكم وصيّة جديدة: أحبّوا بعضكم بعضًا. ومثلما أنا أحببتكم أحِبّوا أنتم بعضُكم بعضًا. فإذا أحببتُم بعضُكم بعضًا، يعرف الناس جميعًا أنّكم تلاميذي” (الآيات ٣٤-٣٥).

اترك رد