بقلم وليد زيلع
لا يُخفى علينا أنّ اندلاع الثورات في مختلف بقاع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومؤخرًا في لبنان، كشف لنا واقفًا شنيعًا من الفقرٍ الممنهج الذي لاحق الناس على مدى عقودٍ من الزمن. وبدلاً من أن يسعى الحكّام إلى استعادة رفاه شعبهم، فإنّ شغلهم الشاغل هو كتم صوت أي معارضة محتملة وإخفاته بخلق “فقاعة خوف” تُستخدم لإخضاع المواطنين – وهو شكل حديث من أشكال الاستعباد. ومن المفارقات أنّ الدرس الذي تغافل عنه الحكّام هو أنّ تجريد الناس من حقّهم في العيش الكريم والحلم بمستقبل مشرق، وتركهم مجرّدين من أيّ شيء على الإطلاق، هذا لا يكتم صوت الشعب بل ينمّي فيهم عن غير قصد إرادة ثورية لكسر قيود الخوف والعبودية. ثمة قوّة خفية وجماعية لا يمكن حدّها تتجلّى حين يُدرِك الشعب أنّ ليس لديه ما يخسره وهي ما أسميّها القوة عند الافتقار. إنّ الصورة اللافتة التي رسمها تاريخنا بالدّم (في الآونة الأخيرة في العراق وسوريا واليمن وأماكن أخرى) هي صارخة ومدوّية: حين يُطلَق العنان لتلك القوة النابعة من الافتقار، يجب أن يتنحى الممسكون بالسلطة، وإلّا سيتبع ذلك دمار واسع النطاق. وفي النهاية، سيكون للتاريخ الكلمة الفصل.
على الرغم من اختلاف الديناميكيات بين المواطنين والقائمين على السلطة في لبنان، إلّا أنّ النتيجة هي نفسها. تركيز الحكّام على ما هو خارج أنفسهم هو أقل بينما التركيز على ما يخصّهم هو أكثر. في هذا البلد، لا يعزّز المسؤولون مفهوم “وضع الطعام على المائدة” لمواطنيهم، بل يغرقون في مستنقعات الفساد، ويقتنصون كلّ الفرص لإثراء أنفسهم في أسرع وقتٍ ممكن. نتيجة لذلك، وجد شعبي أنّه لم يبقَ هناك ما قد يخسرونه، وأطلقوا العنان لما سميناه “القوة عند الافتقار”. ولأنّ الفساد متجذّر بعمق ومتشبث في لبنان، فكلّ شيء جائز. والثورة الساعية إلى العدالة تلقى حتفها على آذان صماء، وأتصوّر أنّها أصبحت نكتة الموسم في صالوناتهم المرموقة. ولقد أدركت أنّه لمن رحمة لله أن يكون لبنان صغيرًا، كيلا تسحق أيدي الدمار المزيد من الجبال الشامخة؛ ولكيلا يتمكّن الجشع من تلويث مساحة أوسع من البحر الأبيض المتوسط الرائع؛ ولكيلا يتمكن الظلم من خنق ناس أكثر خارج بقعة هذا البلد. لقد أصاب الفساد الممنهج طبيعة البلد: الجبال، البحر، الأنهار، الجو، والشعب اللبناني. لم يسلم شيء. إنّها في الواقع لمن رحمه الله أنّ يد الفساد لا يمكن أن تطال ما بعد هذه المعلمة وتؤذي جزءًا أكبر من خليقة الله المجيدة.
قبل بضع سنوات، واجهت الكنيسة اللبنانية واقعًا غيّر مفهومها للإرسالية. في بداية الأزمة السورية، واجهت الكنيسة تدفق إخواننا وأخواتنا من سوريا إلى مجتمعاتنا ما أجبرها على التوقف للحظة لتحاول أن تستوعب ذلك الواقع الجديد. منا الذين أدركوا التغييرات الديموغرافية في منطقتنا وقبلوها وتعاملوا معها، اتبعوا الوصية الكتابية، وطاعوا الدعوة الإلهية، ونضجوا في إرسالية تخطت جدران مبنى الكنيسة. من ناحية أخرى، فإنّ أولئك منّا الذين ما زالوا يقفون عند مفترق طرق أزمة اللاجئين يركّزون فقط على ما يحدث داخل جدران كنائسهم، قد فاتهم القطار وفقدوا اتصالهم بواقعنا الجديد.
اليوم، تواجه الكنيسة تطورًا إضافيًا لهذا الواقع الجديد، ثورة تدفعها القوة عند الافتقار. لقد حان الوقت لكي تبدأ الكنيسة في طرح الأسئلة الصحيحة لفهم طبيعة هذا الواقع الناشئ، وقبوله كحقيقة، والبدء في التعامل معه.
رومية 13 كانت نقطة الانطلاق بالنسبة لكثيرين:
لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. (رومية 13: 1-2)
آمل أن يصبح تفسير هذا المقطع أداة لمساعدة الكنيسة على تقييم ما يجري حاليًا، وليس حجرًا نرجم فيه بعضنا البعض بالإدانة. وبينما الكنائس المختلفة منشغلة بتشريح رومية 13، فإنّ جيراني وأقاربي وأصدقائي وزملائي ورفاقي اللبنانيين يتظاهرون رافعين أصواتهم مطالبين بتحقيق العدالة؛ ومن المفترض أن تكون هذه الإرسالية الأساسية للكنيسة؟ سيسمع الله صراخ الناس في الشارع في أوقات اليأس وليس التفسيرات المعقدة لرومية 13 داخل الكنيسة.
صلّت وصامت الكنائس الإنجيلية في لبنان لمدّة سنوات من أجل نهضة روحية. واليوم قد سُمِعَت تلك الصلوات. فرصة النهضة مغلّفة بعدم الاستقرار. إذا تجرأنا ككنيسة على فكّ الغلاف، فإنّ الرب سوف يفعل أشياء عظيمة من خلالنا، كما حدث في الأزمة السابقة مع إخواننا وأخواتنا السوريين. بيد أنّنا إذا كنّا ككنيسة نبحث عن الاستقرار وننأى بأنفسنا من عدم الاستقرار الحالي، فإنّ الله سيعمل عملًا رائعًا ولكن من خلال من يجرؤ على الانخراط معه.
في جميع الحالات، فإنّ فكر الكنيسة النبوي هو المفتاح، ولا سيّما في الظروف غير المألوفة. الفكر النبوي هو أكثر من مجرد القيام بما يطلبه الله منّا؛ إنّه وعي لهوية الكنيسة ودورها وتجسيدها. إذا كنا ننتظر البيئة المناسبة، فلن تكون الأوضاع سلمية بما يكفي أو هادئة بما يكفي على الإطلاق، فالله يريدنا أن نخدم مجتمعاتنا في خضم عدم الاستقرار حتى يكون معروفًا للأمم. يختتم حزقيال نبوته للشعب في السبي بكشف هدف الله المطلق: “فَتَعْلَمُ الأُمَمُ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ مُقَدِّسُ شعبي، إِذْ يَكُونُ مَقْدِسِي فِي وَسْطِهِمْ إِلَى الأَبَدِ” (حزقيال 37: 28). يختتم متى إنجيله في سياق غير مستقر سياسيًا واجتماعيًا من خلال الكشف عن هدف الله المطلق: “فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ” (متى 28: 19). بدلاً من أن نسأل ما هي مشيئة الله لنا ككنيسة، فلنسأل الرب: كيف تريد أن تحقق كنيستك مشيئتك، التي أعلنتها سابقًا، في سياقها المحلي المتزعزع؟ وبالطبع ثمة اختلاف كبير بين السؤالين.
1 Comment
مقال أكثر من رائع، أستاذي وليد!
الرب يبارك!