بقلم مرتان عقاد
في طريقي إلى العمل وصلت إلى حاجز في أنحاء بيروت الكبرى. يقف عليه بعض الشباب وهم يُغذّون الدخان الأسود المتصاعد بإشعال من الإطارات المشتعلة. بعض المواد الحديديّة والخشبيّة الأخرى مبعثَرة عشوائيًا في عرض الطريق. وتنتشر بعض السيارات والدراجات الناريّة في الموقع بصورة غير منظّمة. كنت أركب خلف زميلي على درّاجته الناريّة الصغيرة – لأنّ الدرّاجة قد تحظى بفرصة أكبر من السيارة في عبور الحواجز في هذه الأيّام – غير أنّ ذلك لم يثنيهم عن أن يوقفونا. أبلغنا شابٌّ ملثّم بأنّه لن يُسمح لنا بالوصول إلى مكان عملنا في ذلك الصباح. كان الدم يغلي في عروقي وضربات قلبي تتسارع وضغطي يرتفع أكثر من الدخان الأسود الذي يتلاشى في السحب. حين أبلغني هذا الشاب بأنّه قائد ثورة من أجل التغيير لكي أستطيع أنا “أن أعيش حياة أفضل،” أشرت إليه بأنّه في هذه اللحظة قد ابتدأ يلعب بما هو أكثر من مجرّد تلك النيران المنبعثة من المواد المشتعِلة التي أقام بها حاجزَه. وأشرت له بأنّني كافحتُ من أجل حقوقه وحريّاته قبل أن تدرك أمّه بأنها ستحبل به يومًا!
الواقع أنّه عندما يصطدم أحد من جيلي – المولود في أوائل سبعينيات القرن الماضي في لبنان – بحاجز قاطع للطريق، تنتابنا ذكريات هؤلاء المراهقين الوقِحين حاملي البواريد، المستعدين أن يطلقوا النار علينا وفقًا للدين المدوّن في بطاقة هويتنا. ونتخيّل أنّنا سنُخطَف، ولن يُسمع عنّا خبر بعد ذلك. يجتاح فكرنا وجودُ قنّاص على سطح مجاور، لن يتردّد للحظة في وقف حياتنا، بانيًا قراره عمّا إذا كنّا نعلّق صليبًا أو اسم الله في عنقنا، أو نضع حجابًا على رأسنا إذا كنا نساء. أمّا سبب ردّة الفعل هذه الصادمة؟ مُراهِقو السبعينيات والثمانينيات هؤلاء الوَقِحون، زعماء الطوائف وقادة الميليشيات في الحرب الأهلية اللبنانية، هم نفسهم الجالسون حتّى الآن على عروشهم السياسية في معراب والمختارة وعين التينة وقصر بعبدا، أو في مخبأ ما غير معروف تحت الأرض. والبعض الآخر – من حسن حظّنا – أصبحوا أمتارًا تحت تراب الأرض!
عندما يصل لأحد من جيلي دعوة إلى انتفاضة أخرى، ينتابنا شعور التهكّم والسخرية في إمكانية التغيير. فمَن يقدر أن يلومنا؟ طلينا جدراننا بشعارات الـ”لا للحرب، نعم للحياة” في أواخر السبعينيات؛ تظاهرنا وردّدنا هتافات الولاء لسيّد بعبدا عندما كنّا نسير نحو القصر الجمهوري في أواخر الثمانينيات؛ وقفنا وقفةً متّحدة في ثورة الأرز عام 2005؛ شاركنا في المسيرات المناهضة للفساد في حركة “طلعت ريحتكن” في بدايات هذا العقد؛ وما زال الكثيرون منّا يهتفون بهتاف “كِلُّن يَعني كِلُّن” في مواجهة هذه الطبقة السياسيّة الفاسدة النَتِنة والعديمة الجدوى!
فعندما ينوي شابّ أو شابّة ذات العيون المرتبكة والخدّين واليدَين الملطّخَتَيْن بحمأة سوداء بمنعنا من الوصول إلى عملنا في أحد صباحات الاثنين من شهر تشرين الأوّل من عام 2019، تستولي علينا الرغبة الشديدة في إعادتهم إلى الواقع وفي نقل عدوى اليأس والعدميّة التي أصابتنا نحن …
ولكن بأي حقّ نفعل ذلك؟ بأي حقّ نقمع الرجاء والعطش إلى الحياة اللذين يغذّيان الاندفاع السلميّ الشديد الذي تقوم عليه ثورة 17 تشرين؟ لقد قمنا بما في وسعنا عندما كان دورنا ومن مسؤوليّتنا أن نكافح من أجل الحياة. إذا أردنا أن نتمسّك بأشباحنا، فهذا القرار يعود لنا. ولكن لا يحقّ لنا أن نفرض أشباحنا على هذا الجيل. قرار الكفاح من أجل الحياة لا يعود لأحد غيرهم.
دعِ الكفاح من أجل “الحياة الأفضل” يواصل مساره. فلْنُحذِّر من مخاطر الماضي، استنادًا إلى تجربتنا في الحياة، دون إخماد المنبع الذي يسعى دائمًا لمستقبل أفضل. لِنبتسم لرجاء البداية الجديدة الذي لا يمكن قمعه. لِنضحك بصدق مع الشباب، محتفلين بالإنجازات الجديدة رغم صِغَرها. لننسحب بعيدًا عندما نشعر بعدم الرجاء، ولنَنْضم إلى السعي الحثيث نحو التغيير عندما تحصل أجسامنا المتعَبة على طاقة جديدة وريح جديدة من أجل التغيير. في نهاية هذا العام 2019 وفي فجر عام جديد، يحق لنا أن نصرخ #كلن_يعني_كلن!
من رموز قيامة المسيح العظيمة في التقليد المسيحي طائر الفينيق الذي ينبعث من الرماد. ربما ليس عن طريق الصدفة أنّه عندما اقتحم بعض بلطجية الطبقة السياسية الزائلة وسط مدينة بيروت ودمّروا خيام الثورة، بنى أحد الفنانين المبدعين من هذا الجيل الجديد طائر الفينيق الكبير مِن حطام المعدن الملتوي. مع الله ثمة دائمًا رجاء لبداية جديدة، رجاء لحياة جديدة من اللحم النتن ورماد الفساد!