بقلم وسام الصليبي
“لو كنت تعيش في لبنان في هذه اللحظة، كيف تتخيل أنك كنت ستقضي العشرين يومًا الماضية؟” هذا ما سألني إيّاه صديقي في تعليق على منشوري على فيسبوك الذي شاركت فيه رأيًا حول المشاركة المسيحية والإنجيلية في انتفاضة لبنان التي بدأت في 17 أكتوبر/تشرين الأوّل 2019.
ما لم يكن يعرفه صديقي هو أنّه ليس قبل 20 يومًا، لكن في عام 2016، بدأت أفكر وأدوّن ملاحظات حول شكل الحركة الاجتماعية والسياسية العربية المتمحورة حول المسيح. أشعر اليوم أنّ هذه الحركة ضرورية ومفقودة.
حركة تقدّم الكثير من القيم المطلوبة للخطاب السياسي
في عام 2016، كانت تأملاتي حول هذه الحركة يدفعها التناقض الذي رأيته بين انخراط (أو ما يعتبر انخراطًا) للمسيحيين – سواء مؤمنين ملتزمين أو مسيحيين اسميين في السياسة في لبنان وفي أماكن أخرى من ناحية، ومن ناحية أخرى، دعوة الكتاب المقدس لنا بأن نناصر المظلومين، وأن ندافع عن العدالة، وأن نتعاطف مع الفقراء، وأن نسعى للسلام والمصالحة (في مقاطع مثل ميخا 6: 8، أشعياء 58: 6-7، مزمور 82: 1-4، ومتى 5).
أضرم بعض القادة “المسيحيين” في لبنان الخوف من المجتمعات الدينية الأخرى، والخوف من فقدان الامتيازات والمكانة في صيغة محاصصة السلطة في لبنان. وهم يتعطشون أيضًا للسلطة والقبول، أو يشاركون في الفساد مثل السياسيين الذين من أي مجتمع ديني آخر. القادة “المسيحيون” يفدون باللاجئين (الذين يشكلون 20 ٪ من سكان لبنان)، وذلك باستخدام الخطاب القومي الذي يحرّض المواطن ضدّ الغريب.
لكن العلاقات الخاطئة تعمل بطريقتين.
علاقة المسيحيين بالحكّام، كما هو الحال في جميع المجتمعات الدينية الأخرى في لبنان، هي علاقة معاملة أو زبائنية (ربّما حتّى علاقة إقطاعية) وليست علاقة قائمة على المبادئ والقيم. لقد نشأت في تسعينيات القرن العشيرين وبدايات القرن الواحد والعشرين ورأيت عائلتي ومجتمعي يتوقعون خدمات من قادتنا مقابل التصويت لهم كلّ 4 سنوات – خدمات تُيسَّر في أغلب الأحيان من خلال الفساد. تستفيد نسبة كبيرة من السكان من الفساد المنتظم والواسع النطاق، من بلدية القرية إلى مجلس الوزراء. هذا هو المصدر الحقيقي لصمود نظام الحكم اللبناني.
في عام 2016، كنت أتأمل في كيفية البدء بمبادرة تنظيمية صغيرة، متمحورة حول القيم والغرض المشترك المنبثق من الكتاب المقدس، وكيفية تثقيف زملائي حول كيفية بناء انخراطنا في الشأن العام والحياة السياسية على أساس الأخلاقيات المسيحية والكتابية – وهذا ما ينبغي أن تُبنى عليه – وكيف ترتبط هذه الأخلاقيات بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وأعمال الرحمة وبناء السلام والضيافة واللاعنف.
غير أنّ تأملاتي لم تتخطّ ذلك النطاق. في منتصف عام 2017، تقدمت بطلب لشغل منصب مسؤول المناصرة في التحالف الإنجيلي العالمي الذي كان لا بدّ أن يقودني في نهاية المطاف للعيش جنيف.
اليوم، يمكنني أن أتصور جيدًا أنه في 17 أكتوبر/تشرين الأوّل، كانت هناك حركة مسيحية صغيرة قادرة على التحدث بوضوح مع أولئك الذين نزلوا إلى الشارع “ضد النظام”، وأولئك الذين كانوا يدعمون الانتفاضة لكنهم اكتفوا بمشاهدتها على التلفزيون وهم مسترخون من منازلهم، وأولئك الذين لم يعرفوا ماذا يفعلون مع هذه الانتفاضة.
بدلاً من الاندماج مع أصوات المتظاهرين، كان بإمكان صوت أتباع المسيح أن يرسم مسارًا أكثر انسجامًا مع قيمنا وأخلاقياتنا، صوتًا يشهد على سيادة يسوع المسيح، صوتًا “يحتضن” الآخر.
حركة تحتضن الآخر
كتب ميروسلاف فولف في كتابه “Exclusion and Embrace[1]“: “لا يمكن أن تتمّ العدالة بدون رغبة في الاحتضان”. أخشى أن تكون انتفاضة لبنان قد سعت إلى تحقيق العدالة، لكن العناصر المكونة لهذه الانتفاضة أخفقت في إرساء الأساس لتحقيق العدالة الحقيقية عن طريق اعتناق الآخر.
من الناحية العملية، ثمة مطلب مشترك ومناقَش على نطاق واسع (بين بعض مكونات) الانتفاضة يتمثل في حكومة انتقالية تنظم أوّل انتخابات برلمانية على أساس غير طائفي. ويبدو هذا عظيمًا. غير أنّه ماذا لو اعتنق المحتجون الآخر وخلقوا مساحة في ذاتهم – كما يقول فولف – للترحيب بالآخر وفهم مخاوفهم وجراحهم التاريخية وكيف يمكن لمثل هذا الإصلاح للديمقراطية اللبنانية أن يهدّد العدالة كما يتصورونها. قد تؤدي الانتخابات البرلمانية على أساس غير طائفي إلى إثارة مظالم – وقد تكون داخل المجتمع المسيحي – من شأنها أن تؤدّي إلى العنف بدلاً من تحقيق العدالة.
من خلال السماح لأصواتنا بالاندماج مع أصوات المجموعات المختلفة التي تقف وراء الانتفاضة، نفشل كمسيحيين ملتزمين بالارتقاء إلى مستوى دعوتنا، وربما نساهم – عن غير قصد – في استقصاء مئات الآلاف من اللبنانيين الذين تعهدوا بالولاء لنظام ما بسبب الولاءات الطائفية أو الخوف أو المصلحة المالية أو الحفاظ على الامتيازات أو توليفاتها. ربما يكون هؤلاء السكان قد دعموا الانتفاضة في مرحلة ما أو أخرى، وهم يحلمون بمستقبل أفضل، لكنهم عادوا في النهاية إلى مشاعر ما قبل 17 أكتوبر/تشرين الأوّل جزئيًا من خلال فشل الانتفاضة في تصوير مستقبل أفضل للجميع؛ فشل في احتضان.
كحركة غير مسبوقة من اللبنانيين من جميع مناحي الحياة، من جميع الطوائف الدينية، تجمعوا في ساحة نور في طرابلس، شمال لبنان للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، مع D.J. وجهاز صوت. بين عشية وضحاها، كانت مشاهد رقص المتظاهرين اللبنانيين (في مدينة محافظة جدًا) على القنوات الإخبارية العالمية. سألت أحد أصدقائي، وهو منظّم رئيس للمظاهرات في طرابلس، “من أحضر D.J. وجهاز صوت؟” وكان جوابه غير المتوقع تمامًا هو أنّه عمل وكالة تابعة للحكومة لها مصلحة في منع المتظاهرين من التحدث إلى بعضهم البعض، ومنع الاحتضان.
بعد شهر واحد من الانتفاضة، في العديد من المدن والبلدات، هاجم رجال غاضبون المتظاهرين. في الوقت نفسه، خرجت أعداد كبيرة من الموالين للزعماء التقليديين والطائفيين إلى الشوارع وأغلقت الطرق بناءً على تعليمات زعمائهم، في محاولة ربما لركوب الانتفاضة.
كمسيحيين ملتزمين، نحتاج إلى قضاء بعض الوقت والجهد لاحتضانهم جميعًا. احتضان الشيعة والسنة والدروز والعلويين والمسيحيين… احتضان المستفيد والضحية في نظام الحكم الحالي… نحن بحاجة إلى بناء علاقات وثقة من شأنها أن تخفّف من مخاوفهم من “الطائفية الأخرى” التي أمثلها. ونحن بحاجة إلى أن نستكشف معًا كيف يمكن أن يكون هناك شعور بالعدالة والكرامة والمعيشة اللائقة خارج النظام الاقتصادي والسياسي المعاملتي والزبائني الذي أمّن له تشكيل لبنان في عام 1920 غطاءً بدل أن يطعن به (باستثناء ربما الفترة بين 1959 و1962).
حركة تولّد استعدادًا للاحتضان
ولكن قبل التعامل مع الآخر، ثمة حاجة لأن نعمل مكثّفًا على إرادتنا للانخراط.
بمجرد بدء الانتفاضة، رسم الرعاة رؤى متضاربة حول مواقف المسيحيين تجاه الحكومة، وقدموا تفسيرات متباينة لرومية 13، داعين لدعم الانتفاضة أو أخذ موقف الحياد حيالها. أتمنى لو كان هناك المزيد من العظات حول احتضان الآخر كعمل سياسي مسيحي.
ثمة حاجة إلى الكثير من العمل لتشكيل حركة مسيحية متجذرة في وعود الله، مبتهجة في هويتنا وإرثنا في المسيح، ولديها وضوح فيما يتعلق بكيفية ترجمة الكتاب المقدس في الحياة الاجتماعية والسياسية، بحيث يمكننا التغلب على خوفنا من “الآخر” “ونكون قادرين على التواصل مع إخواننا وأخواتنا اللبنانيين، والمشاركة معهم والعمل معًا من أجل حكم القانون والحكم الذي يستجيب لاحتياجات الجميع.
هذا ليس بالأمر السهل لأنّ الكثير من المسيحيين قد وضعوا أملهم في “أمة لبنان” كملجأ، ونحن بحاجة إلى استعادة أولوية الرجاء والملاذ في وعود الله.
أحلم بحركة مسيحية متجذرة في المسيح حتّى نتمكّن من احتضان الجميع، لبنانيين وغير لبنانيين، في التشبه بيسوع، حتى نكون قادرين حقاً على شفاء الجروح التاريخية والمظالم الحاضرة في المجتمع(ات) اللبناني(ة)، وبناء مجتمع أقوى، مع كسر علاقات الزبائنية والإقطاع، وبذلك يكون من شأن هذه الحركة أن تؤدي في نهاية المطاف إلى حكومة أقوى وأكثر عدلاً وأقل فسادًا.
[1] ترجمة العربية لعنوان الكتاب: استبعاد واحتضان