مدوّنة لبنان – يناير/ كانون الثاني 2020
يناير 7, 2020
اغتيال قاسم سليماني يعيد فتح تقرحات جراح الضحية في منطقة هي في أمَسّ الحاجة لشفاء عميق
يناير 16, 2020

بقلم ربيع الحصباني

منذ بدء المظاهرات التي عمّت البلاد في 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر، 2019 والشارع اللبناني يسمع عبارات مثل “الدولة المدنيّة هي الحل”، “الدولة العلمانيّة هي ما نطالب به”. وفي ساحات المظاهرات يمكن أن يسمع المرء هتافات مثل: “ما بدنا طائفيّة، بدنا دولة مدنيّة” (لا نريد طائفيّة بل نريد دولة مدنيّة). والجميع يعلم أنّ الحكم في لبنان قائم على أساس التوزيع التوافقي الطائفي بحيث تُوزَّع مناصب السلطة الأساسية بنسب محددة بين أعلام الطوائف المختلفة. وما لا يخفى على أحد أنّ أرقام آخر إحصاء لعدد سكان لبنان عام 1932 قد مضى عليه غبار الزمن وبطبيعة الحال تغيّرت الأعداد كثيرًا. أي أنّ حتّى التمثيل الطائفي الراهن لم يعد عادلًا من ناحية توزيع المناصب بين مكوّنات النسيج اللبناني الطائفي.

وسواء طالب اللبنانيون بدولة مدنية أو حافظوا على التمثيل الطائفي، يواجه المسيحيون احتمال خسارة نفوذهم إذا ما تغيّر نظام الحكم في لبنان أو أُعيد توزيع الكراسي الحاكمة بطريقة مختلفة. وفي ظلّ مواجهة هذه المعضلة، سألني أحد أصدقائي: “ألا تخشى من أنّه قد نخسر ككنيسة وجودنا في لبنان؟” لقد حمل هذا السؤال تحديًا في طيّاته وردّي كذلك. إجابتي كانت أنّني مع تحقيق العدالة والحق وفقًا لما ينصّ عليه الكتاب المقدّس والذي يناشدنا بتحقيقهما في مجتمعاتنا سواء كنّا أكثرية حاكمة أو أقلية محكومة.

غير أنّ ذلك السؤال المعقّد في طبيعته شغل تفكيري ودفعني إلى التأمل في مفهومي للكنيسة. ما هي الكنيسة؟ ما هي طبيعتها وما هو دورها؟ ماذا يعني أن نكون كنيسة في مجتمعنا؟ وكيف يجب أن نفكّر في وجودنا ككنيسة في لبنان؟

لست بصدد تقديم شرح معمّق حول لاهوت الكنيسة في هذه المدوّنة. غير أنّني سأشارككم ما شاركته في أحد منتديات نقاش الشأن العام التي بدأنا القيام بها في كليّة اللاهوت المعمدانية العربية مؤخرًا وأضع في عين الاعتبار بعض الدراسات والقراءات الكتابية واللاهوتية حول مفهوم الكنيسة.

عندما يسمع معظم الناس كلمة “كنيسة”، يفكّرون على الأرجح في ذلك المبنى الذي يجتمع فيه المؤمنون المسيحيون. أمّا الكتاب المقدس يتحدّث عن الكنيسة أنّها أكثر بكثير من مجرّد مبنى. وفي الواقع، قد يقول البعض أنّ الكنيسة ليست مبنىً على الإطلاق، ولكنّها شعب الله. كلمة “كنيسة” مشتقة من الكلمة اليونانية إكليسيا (ekklesia) التي تعني جماعة مدعوة.

لم يكن للكنيسة المسيحية الباكرة مبانٍ، أو أقلّه ليس بالمعنى المعاصر للمباني الكنسية. غالبًا ما كان المسيحيون في القرن الأول يتعرّضون للاضطهاد، وذلك لكونهم أقليّة إيمانية وسط الغالبية اليهودية والوثنية في ظلّ الحكم الروماني. ونتيجة لذلك، كانوا يلتقون سرًّا في المنازل عادةً. ومع انتشار تأثير المسيحية، أُنشئَت مبانٍ مخصصّة للعبادة وباتت ما نعرفه اليوم كنائس. فالكنيسة هي أشخاص (لا مبانٍ) يتكرّسون للتعليم والشركة والخدمة والصلاة (أعمال 2: 42). المباني قد تسهّل قيام شعب الله بدوره، لكنّها لا تحقّق قصد الله لشعبه.

إذًا الكنيسة مجموعة من أتباع المسيح الذين يتحدون كجسدٍ واحد رأسه المسيح لذلك فهم لهم طبيعة واحدة وغرض محدّد يتحقّق من خلال أدوار يقومون بها معًا. ما هي هذه الأدوار؟ الأدوار المفتاحية لأيّ كنيسة هي العبادة، والبنيان وإعلان الأخبار السّارة.

العبادة في طبيعتها هي متمحورة حول الله وترتكز على المسيح. ليست موسيقى ترفيهية للمسيحيين أو عروضًا مبهجة أو أداء مبهرًا، بل هي التعبير عن حبّنا وإكرامنا لخالقنا في كلّ ما نقوم به. قد نعبد من خلال التسبيح والترنيم ولكن قد نعبد أيضًا من خلال العمل المتقن الذي يعكس أمانتنا لما أوكلنا الله به. والعبادة أيضًا هي في السلوك الحسن الذي يُظهر طاعتنا لوصايا إلهنا (يوحنا 14: 15).

البنيان هو أيضًا دور الكنيسة. إنه ينطوي على حث المؤمنين على القداسة وذلك من خلال رعايتهم ومساعدتهم على النضج في المسيح. تحقيقًا لهذه الغاية، يتم تكليف أعضاء الكنائس بمجموعة متنوعة من الخدمات مثل دراسة الكتاب المقدس والتعليم المستمر لكلمة الله، والصلاة من أجل بعضنا البعض، وأعمال الرعاية كالضيافة مثلًا (أفسس 4: 11 – 12).

إعلان الأخبار السارة هو أيضًا دور رئيس للكنيسة. هذا يعني الوصول إلى العالم الضال وإظهار المسيح لهم. ثمة أشخاص كثر غالبًا ما يكون لديهم تساؤلات حول المسيح، فإنّ معرفة الحق والقدرة على إعلانه هو جزء من دور الكنيسة. وهنا يأتي دور الكنيسة في التشبّه بمسيحها الذي عبّر عن الرحمة والمحبة بصورة ملموسة من خلال مساعدة الناس وإشباع الجموع وشفاء المرضى (لوقا 4: 18). باتباع مثال المسيح في محبة الآخرين، يجب على الكنيسة أن تسعى إلى إحداث تغيير حقيقي في العالم من حولها مع عدم إهمال مشاركة رسالة المسيح الهادفة إلى خلاص الأمم. فالعالم اليوم يئن متألمًا وجائعًا ويائسًا فلا بدّ للكنيسة أن تعلن الأخبار السارة وأن تكون جسد المسيح الحقيقي لمن حولها من خلال الاهتمام بالمرضى والصلاة لأجل شفائهم وإطعام الجياع ومنح الرجاء لليائسين.

إذا فشلت الكنيسة في تحقيق أي من هذه الأدوار الرئيسة – العبادة، البناء، وإعلان الأخبار السارة – فإنّها لا تحقق مقاصد الله لها. ولا شكّ أنّه ثمة أوقات تواجه فيها الكنائس تحديات وتكافح وتتألم، لكنّ الكنيسة السليمة تسعى للتغلب على هذه التحديات بطريقة تكرم الله ومقاصده.

ثمة أمثلة كثيرة في عالمنا اليوم للكنيسة في بلدان لا تمتلك فيها مبانٍ بسبب كون تلك البلدان تحت حكم غير مسيحي سواء كان علمانيًا أو متديّنًا. ونرى أنّ الكنيسة في هذه البلدان ناشطة تعمل بجرأة وأمانة لتحقيق دورها في العبادة والبنيان وإعلان الأخبار السارة. وتبتكر الكنيسة في هذه البلدان طرقًا غير مألوفة للقيام بدورها. حتّى أنّ الكنيسة في هذه البلدان تبدي استعدادًا لتحمل الاضطهاد وحتّى الشهادة لأجل المسيح. فلا يهم إن وُجِد المبنى أو لم يوجد أو إن كان ظاهرًا فوق الأرض أو مستترًا تحتها، المهم هو أن تقوم جماعة أتباع المسيح بأدوارها الأساسية.

لذلك في نهاية المطاف عندما أفكّر في الكنيسة في لبنان لا يهمني ما سيكون شكل الحكومة العتيدة وأي شكل ستتخذ الدولة، قد تكون مدنية أو دينية. قد يبقى للمباني الكنسية تواجد على أرض لبنان أو قد نضطر إلى الانتقال لمبانٍ تحت الأرض أو مبانٍ سرية أو من دون أي مبنى على الإطلاق. نحن كنيسة الرب يسوع المسيح أي جسده المؤلّف من أعضاء يتحدون بطبيعة واحدة ولغرض واحد يحققونه من خلال الأدوار الرئيسة التي ينص عليها الكتاب المقدّس. شكل الكنيسة لا يغيّر طبيعتها وعملها. أصلّي أن تشهد الأيام المقبلة ثورة في مفهومنا لهويتنا الكنسية ونخرج من قوقعة الخوف من خسارة النفوذ أو لعب دور الأكثرية العددية أو القوّة الحاكمة وننخرط أكثر بأعمال تحقّق قصد الله لنا في بلدنا. أصلّي أن يتطوّر مفهومنا في العبادة ليتخطّى الأشكال المألوفة والتقليدية ويصبح عبادة لا يحددّها شكل بل تهتم بالجوهر وهو التمحور حول الله والتركيز على المسيح. وأرجو أن ننشغل أكثر ببنيان جسد المسيح ونتحوّل أكثر إلى تلك الصورة عينها أي التشبّه بسيّدنا. وأدعو أن يكون شغلنا الشاغل إعلان الأخبار السارة وسط عالم يغصّ بالأخبار المحزنة وإظهار المسيح لعالم متألّم. في لبنان والعالم أجمع، حتّى وإن غاب المبنى، أصلّي أن تبقى الكنيسة حاضرة. وستبقى بنعمة الله.

اترك رد