بقلم إيلي حدّاد
نعيش في لبنان انتفاضة منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019. أعداد كبيرة من اللبنانيين يثورون ضد النخبة الحاكمة والفساد المتأصل الذي يتسم به نظامنا السياسي. وحلّ المحنة ليس وشيكًا. السياسيون لا يستجيبون لمطالب الشعب، والناس لا يلينون. أحد العوامل الرئيسة التي ساهمت في الانتفاضة هو فشل النظام الاقتصادي. إنّ الفساد وعدم الاستقرار يقودان لبنان إلى حافة الانهيار الاقتصادي. أضف إلى ذلك التوتر الإقليمي المتصاعد الذي يؤثّر على القرارات السياسية في لبنان.
الكثير منا قد كتب أو نشر مدونات حول هذه الانتفاضة. وهذا متوقَّع لأنّنا جميعًا نتصارع مع ما يعني ذلك لنا كأتباع للمسيح وككنيسة. نحن نجد أنفسنا في مساحة عتبية[1] في لبنان، مرحلة انتقالية. لقد تركنا وقت الآنف. لا مجال للتراجع. ونحن ننتظر ما هو التالي، مساحة غير مألوفة لم نشهدها من قبل. إنّه وقت انتقالي لا يبعث بالراحة.
بما أنّ البلاد تمر بلحظاتٍ حاسمة، فهذه فرصة مناسبة للكنيسة. وكيفية استجابة كنائسنا للأزمة أمر بالغ الأهمية. لقد تأمّل كثيرون منّا في كيفية استجابة أتباع المسيح في مثل هذه الأوقات. لقد تعلّمنا دروسًا قيّمة ونحن نستكشف طرقًا جديدة في كيفية التعامل مع مأزقنا. غير أنّه في رأيي، إنّنا لم نفكّر بما فيه الكفاية في كيف ينبغي أن تكون استجابة جماعة الكنيسة.
لقد استحوذت فكرة الكهنوت على انتباهي لفترة. نحن نؤمن بكهنوت جميع المؤمنين، لكن ماذا يعني ذلك؟ لقد سبق وأن كتبت حول هذا الموضوع لتسليط الضوء على أنّ جميع المؤمنين يتشاركون في هذا الكهنوت. في هذه المدوّنة، سأتأمل في الكهنوت كدورٍ جماعي للكنيسة.
يستخدم العهد الجديد، في عدة أماكن، لغة الكهنوت لوصف دور شعب الله. ما الذي يمكن أن نستخلصه من مفهوم العهد القديم للكهنوت الذي قد يفيد فهمنا للدور الكهنوتي اليوم؟
بادئ ذي بدء، الكهنوت هو تعيين الإلهي. هذه حقيقة حاسمة لا يمكننا تجاهلها حتى لو كانت غامضة للغاية بالنسبة لنا. إذا كانت هذه دعوة يعيّنها الله، فعندئذ يصبح من الضروري أن نستكشف ما يعني ذلك لنا وكيف يمكن أن يعيش اليوم بأمانة وفقًا لدعوتنا الكهنوتية.
دور الكهنوت يمكن أن يكون متمحور في الوساطة بين الله والناس؛ تمثيل الله أمام الناس وتمثيل الناس أمام الله.
وتأتي هويتنا في لبّ تمثيل الله أمام الناس. 1 بطرس 2: 9 تضع الكهنوت في صميم تحديد هويتنا كشعب الله: “وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ.” لقد أٌعطِيَت لنا هذه الهوية لكي نعلن هوية الله. يا له من دور مجيد. إنّ تحقيق هذا الدور يتطلب تكريسًا تامًا وطاعة لله وتعاطفًا غير محدود مع بني البشر.
يمكننا تمثيل الله أمام الناس من خلال تقديم وجهة نظر الله حول الوضع الراهن. في خضم أزمتنا، يشعر الناس بالاضطراب والارتباك والخوف. إنهم قلقون بشأن المستقبل. إنّهم غير راضون عن الواقع الحاضر، لذا يريدون تغيير المستقبل، وهذا ما قد يكون مثبطًا للغاية. لا يعرف الناس كيف ستؤثر تصرفاتهم على عملية التغيير وما إذا كان هذا التغيير سيكون إيجابيًا أم سلبيًا. لكن ماذا عنّا؟ لاحظت أنّنا في كثير من الأحيان، نحن شعب الله، يمكن أن تنتابنا مشاعر وردود أفعال مماثلة. نقلق حيال ما سيأتي. لقد ذكّرتني قراءات كتابي المقدس مؤخرًا أنّه على الرغم من أننا لا نعرف ما الذي سيأتي في الغد، إلّا أنّنا نعرف كيف سينتهي كلّ شيء. في نهاية المطاف، المسيح منتصرٌ. لقد انتصر في المعركة. وبالتالي، ينبغي أن يكون موقفنا تجاه الأزمة مختلفًا. كشعب الله، لا ينبغي أن نكون قلقين عن تأثير أفعالنا على تغيير المستقبل. فبدلاً من ذلك، يجب أن نحدّد تصرفاتنا في ضوء المستقبل. كشعب الله، يمكننا أن نجلب وجهة نظر إسكاتولوجية (أخروية) لهذا الوضع. كأشخاص يمثلون الله أمام الناس، يمكننا أن نعلن أنّ المسيح منتصر للأشخاص المضطربين والقلقين من حولنا. يمكننا أن نساعدهم على رؤية منظور الله في كلّ الظروف. يجب أن تكون الكنيسة مجتمعًا رائدًا يصمّم طريقة بديلة للاستجابة للأزمات.
ككهنة، تمثّل الكنيسة أيضًا الشعب أمام الله. الكهنة يقدمون الذبائح. هذه ليس واقع العهد القديم فقط. لا يزال هذا دورًا رئيسًا لشعب الله في العهد الجديد. ذبائحنا اليوم ليست تكفيرية. لقد أتمّ هذا العمل رئيس كهنتنا الأعظم على الصليب، لكن العهد الجديد يتحدث عن ذبائح روحية. أي أنّ كلّ عمل مملوء بالروح هو ذبيحة روحية. غير أنّ محور ذبائحنا يمكن التعبير عنه بالشفاعة. دور الشفاعة الكهنوتي هو أحد أهم الأدوار التي يمكن أن يلعبها شعب الله اليوم.
أجد أنّه من المستغرب أنّ الأزمة في لبنان، رغم الخوف المتزايد من العنف أو الانهيار التام، لم تولّد حركة صلاة ملموسة بين كنائسنا. وأنا أتساءل لماذا؟ وكثيرا ما نقتبس الآية الشائعة “فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ وَصَلَّوْا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ الرَّدِيةِ فَإِنَّنِي أَسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُمْ” (2 أخبار 7 :14)، ولكن هذه الآية لا نترجمها إلى عمل. يمكن أن يكون ذلك بسبب انفصال كنائسنا عن مجتمعنا. خطيتهم لا خطايانا. نحن أبرار ومتعالون أخلاقيًا. نجد صعوبة في التماهي مع مجتمعاتنا. أو ربّما نشعر أنّنا ضحية خطايا الآخرين، وهذا ما قد يثير فينا مشاعر الغضب والاستياء تجاه الجناة. أو ربّما يكون فساد عالمنا قد تسرب إلى كنائسنا ولم يلاحظ أحد ذلك. قد نكون غافلين عن الخطايا الثقافية التي تتسلّل إلى كنائسنا. لم نعد نعترف بالخطيئة وآثارها.
يبدأ دور الشفاعة الكهنوتي بالنظر إلى الداخل، إلى مجتمع كنيستنا، والاعتراف بخطايانا وكيف أننا قد فسدنا بفساد العالم، لنصبح مجتمعًا تائبًا. ثمّ نظرة إلى الخارج، والاعتراف بخطايا شعبنا والتماس الغفران لهم. إذا كنّا نؤمن حقًا بقوّة الصلاة، فلماذا لا نفعّل استخدام هذه القوة أكثر؟
الكهنوت هو امتياز المثول أمام الله نيابة عن الآخرين وأنفسنا، والحضور أمام الناس نيابة عن الله معلنين صلاحه في الكلام والعمل. صلاتي هي أنّ الاضطرابات التي نواجهها في لبنان ستوقظ الكنيسة على هذا الامتياز.
[1] مفهوم أنثروبولوجي يصف الارتباك الذي يمر به المرء حين يقف على عتبة الانتقال من مرحلة إلى أخرى.