بقلم روبرت حمد
عندما تقرأ هذه المدوّنة سواء كنت تعيش في بيروت، بانكوك أو بالتامور، فأنت مدركٌ تمامًا أنّنا نشهد جميعًا تحولات هائلة على الصعيد الثقافي والبيئي والسياسي. ولا يمرّ بنا يومٌ كلبنانيين إلّا ونتذكّر خلل نظامنا الطائفي، وتلاعب النُّخب السياسيّة بالنَّظام، والذين بدورهم يزدادون ثراءً، ما أمسى بنظَامنا الاقتصادي على شفير الانهيار.
وفي الوقت نفسه، تحاول الحكومة الجديدة إيجاد طرق مستجدّة لتخفيض نسب الفوائد وإعادة رسملة المصارف وما يتبعها من خطوات تقشفيّة موجِعة، وذلك كلّه في سبيل تجنّب التقوّض الاقتصادي. وأنا من مؤيدي ممارسة الضغط على مسؤولينا لكي يتوصّلوا لطرق مسؤولة تُعيد النهوض بالاقتصاد. ومن الجلي أنّنا كلبنانيين قد أضنتنا الترتيبات السياسيّة السالفة الهادفة إلى الحفاظ على السلطة، وها نحن نسعى إلى طرق جديدة تدفع بنا قُدُمًا. فنحن نعيش فعلاً في ازمنة تاريخيّة ملفتة.
وبالحديث عن الأزمنة التاريخيّة، فنحن غالبًا ما نتأمّل في أحداث الماضي وكأنّها مجرّد نصّ مدوّن في كتاب لا يمتّ لنا بصلة. فنحن نذكر تاريخ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943، متذكّرين استقلال لبنان من الانتداب الفرنسي، أو 13 أبريل/نيسان 1975 مدركين أنّها كانت بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة. إنّ هذه الأحداث لهي من الماضي، غير أنّها على قدْرٍ من الأهميّة بكونها أثّرت في تغيير الأمور في المستقبَل.
كما ونعرف جميعنا تمام المعرفة أنّ هذه الأحداث السّالفة قد أثّرت في مجرى تاريخ عائلاتنا. وقد ينتابنا الألم الشّديد حينما نستذكر الماضي من نافذة تاريخ عائلاتنا أو تزامن تاريخ العائلة مع أحداث تاريخيّة، غير أنّ قاسمًا واحدًا يجمعنا ألا وهو الخسارة والحزن. إذا ما تماهت الأحداث التاريخيّة مع سيرة عائلتنا، يبيت التاريخ أكثر من مجرّد نص من كتاب لا نمتّ له بصلة لا بل يصبح ملموسًا أكثر بالنسبة لنا.
فعلى سبيل المثال، أذكر بالضبط القَصص التي كان يرويها عمّي الرّاحل، في سبعينيات القرن العشرين، حول المجاعة الكبرى في منطقة جبل لبنان تحت الحكم العثماني (1915-1918). وقد سمعت هذه القصص كفتى على شرفة بيت عائلتنا الصيفي. وقد شكّلت تلك القصص درسًا من “عمّو” (أخ والدي) في تاريخ محن العائلة وانتصاراتها أثناء مواجهة المجاعة. كان ينتابني الذهول حين أسمع عن أهوال الحرب والعنف من ناحيّة، وقد امتلأت فخرًا من ناحيّة أخرى، وأنا أصغي كيف خرجت عائلتي من مأزق الظروف الاقتصاديّة والعسكريّة الساحقة التي عانوا منها بسبب العثمانيين خلال الحرب العالميّة الأولى.
وبينما أتأمل في هذه الأحداث كبالغ، ألاحظ نتائج المجاعة الكبرى في الأعوام 1915-1918، والتي أدّت بدورها إلى تهجير بشري بصورة مهولة وإلى خسارة حياة الكثيرين. وقد هاجرت عائلتي إلى دمشق جرّاء العنف والجوع. وجالوا في جميع أنحاء سوريا مع والدي الرضيع (مواليد عام 1916) يجِرّونه وفي بالهم همّ واحد: النجاة. أمّا بعض أفراد العائلة لم ينجوا خلال الرحلة. وهذا ما يجعلني أتساءل إذا ما تلقّى أجدادي أيّ رحمة وعون في الطريق. والحق يُقال، إذا ما تعاملنا مع الأحداث التاريخيّة بربطها بتاريخ عائلتنا، فهذا يمنحنا وجهة نظر مختلفة من جهة تفاصيل هذه الأحداث وتداعياتها.
عقد جديد يدخل كُتُب التاريخ
لقد بدأ هذا العقد الجديد بعد أكثر من مائة عام، وهو مصدر قلق لنا في هذه المنطقة، إذ هو عقدٌ يعجّ بالنازحين وبالظروف القاهرة. والاحتجاجات، الانهيار الاقتصادي، الحروب، والاغتيالات جميعها لديها القدرة على التأثير في المنطقة وفي عائلاتها بعواقب مؤلمة وطويلة الأمد.
هذا وإنّ المؤشّرات الاقتصاديّة الرائدة لا تبدو واعدة. وقد بلغ الدين العالمي أعلى مستوياته على الإطلاق، بحيث وصل إلى 184 تريليون دولار[1]، وقدَّرت الأممُ المتحدة عدد النازحين داخل سوريا بـ6.5 مليون نازح، بينما فرّ أكثر من 3 ملايين منهم إلى بلدان مثل لبنان والأردن وتركيا. وفي الوقت عينه، فقد حضر 119 مليارديرًا الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عام 2020، وذلك لمناقشة سُبُل تنمية الاقتصاد العالمي.
فما هو الربط الحالي بين التاريخ والاقتصاد؟ يشير مقال كان قد نُشر مؤخرًا في مجلّة ذي إيكونوميست بتحوّل عملة الدولار الأمريكي إلى سلاحٍ. تتحكّم الولايات المتحدة بالشبكة الماليّة وهي تستخدم الدولار جيوسياسيًّا. ويشير المقال أنّ “لدى أمريكا الآن أكثر من 30 برنامجًا ناشطًا للعقوبات الماليّة والتجاريّة، “وتتحكم هذه البرامج بميزان مدفوعات دول مثل إيران والعراق.[2]
ماذا يعني كلّ ذلك؟ فكِّر في المسألة كَمَن يطفئ الأنوار، غير أنّه لا يمكنك التحكم بمصدر الطاقة. من الناحيّة السياسيّة، فقد أعلن وزير الخزينة الأمريكي، ستيفن منوشين، أنّ الولايات المتحدة “ستقتطع مليارات الدولارات من الدعم للنظام الإيراني” (أي مليارات الدولارات من الأموال الإيرانيّة المشروعة والمتواجدة في مدينة نيويورك). وقد قال وزير الخارجيّة الأمريكي في الوقت عينه إنّ العراق قد يفقد إمكانيّة الوصول إلى حسابه الحكومي في البنك الاحتياطي الفيدرالي في مدينة نيويورك”.[3] بمعنى آخر، لقد أمسى الدولار سلاحًا وفتح أُفقًا جديدة لخوض المعركة في العقد الجديد.
ماذا يعني كلّ هذا لنا كلبنانيين وماذا يعني للكنيسة؟
يجب علينا ربط الأحزمة والاستعداد لرحلة شاقّة. فمن ناحية، ينتابنا شعور بالإحباط والفزع الشديدين بحيث يحتاج قادتنا السياسيين إلى التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي ومع البنك الدولي، وذلك لإنقاذ اقتصادنا المثقل بالديون عن طريق فرض أعباء تقشفيّة على عامة الشعب. ومن ناحيّة أخرى، ثمة ما يدعو للعزاء. ها إني أرى المزيد والمزيد من المسيحييّن الأمناء وهم يهجرون أصنامهم السابقة التي لطالما تمسّكوا بها (التمسّك بالسّلطة والتحالفات السياسيّة)، وقد تحول انتباههم عوضًا عن ذلك نحو المشاركة في إرساليّة محبّة الله وخدمته.
كمسيحيين، يمكننا أنّ نجد الكثير من النصوص الكتابيّة التي تذكّرنا أنّ شعب الله قد واجه أوقات حالكة وقاتمة عبر التاريخ. وإنّ أحد أهداف هذه النصوص الكتابيّة يكمن بتشجيعنا. فعلى سبيل المثال، يكتب النبي إرميا لمن هُم في السبي ويشجّعهم أنّ إلههم “سيحوّل نوحهم الى طرب ويعزّيهم ويفرحهم من حزنهم” (إرميا 31: 13ب). يشير الكتاب المقدّس بوضوح أنّنا، وكأتباع أمناء للرب، مدعوون من الله للانخراط في عالمنا على الرغم من كلّ الهم والغم. دعوتنا أن نُظهِر محبّة الله الفائقة المعرفة في المسيح يسوع، وذلك عبر إحلال العدل (إرميا 9: 24) هنا والآن. نحن مدعوون لنتشارك في إرساليّة الله ولنصنع التاريخ، بانخراطنا الفعّال في المحبة والخدمة. وهذا ما أراه يحصل في لبنان وسوريا.
يقيم اللهُ جيلًا جديدًا من المسيحيين الأمناء الذين سئموا من الوضع الراهن للترتيبات الباليّة، والذين اختاروا بإصرار اتباع يسوع في إرساليته؛ “أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعًا مَعَ إِلهِكَ” (ميخا 6: 8)، وقد يكون لهذه الأعمال الارساليّة الأثر البالغ على وضعنا الراهن.
إليكم بعض الأمثلة: يقدّم المسيحيون الرعايّة الطبيّة المنخفضة التكلفة والمجانيّة للكثير من اللاجئين والمهجّرين والفقراء اللبنانييّن. يذهب هؤلاء المسيحيون إلى مخيمات اللاجئين لتأمين التعليم للأطفال السورييّن. وهم ناشطون في مواجهة العبوديّة الحديثة بالضغط على الجناة، الذين يسيئون معاملة العمّال الأجانب. وقد قدّم آخرون الملاذَات الآمنة وأماكن التجمع للعمّال الأجانب، في حين أنّ آخرين يكرزون بالإنجيل ويعلِّمونه. وبعبارة أخرى، يمكن إيجاز إرساليتهم ضمن مفهوم محبّة القريب وصُنعِ العدالة.
يحثّ الرسول يعقوب قرّاءه في العهد الجديد على العبادة الحقّة لله. ويقول في العبادة الحقّة والطاهرة بـ “أنْ يَعتَنيَ الإنسانُ بِالأيتامِ والأراملِ في ضِيقَتِهِم، وأنْ يَصونَ نَفسَهُ مِنْ دَنَسِ العالَمِ” (يعقوب 1: 27). وفي العظة على الجبل يقول يسوعُ “طوبى لنا” إذا كنّا من “صانعي السلام،” وإن سلكنا بـ “وداعة،” وإن خدمنا “الحزانى،” فنحن نُدعى أبناء الله (متّى 6: 3-9).
علامات رجاء
من السهل أن نقع فريسة الخوف في عالم اليوم. يدعو الكثير من القادة، وفي سبيل إحلال سلام دائم وأمن وازدهار، إلى إقامة الجدران، أكانت متاريس سياسيّة أو اقتصاديّة أو عسكريّة. غير أنّه بالنسبة للمسيحيين، إغراء استعادة ذهنيّة حكم العالَم المسيحي، سواء منذ إعلان مرسوم ميلانو (313 م) أو حتّى الوقت الحاضر، لن ينتج إلّا وهمًا بالأمان. وكما قال عالم اللاهوت والارساليّة الراحل أورلاندو كوستاس… “لم تُدعَ الكنيسة لإدارة العالم، بل لأن تشهد عن ملكوت الله في العالم”[4] المسيحيون الذين يناصرون ذهنيّة المتاريس هذه، وأينما كانوا في العالم، سيعزلون أنفسَهم عن الروح الواهب الحياة، وفي هذا غربة عن الحياة بكلّيتها.
سيكتب التاريخ عن هؤلاء المسيحييّن الذين أظهروا البُشرى السارة في هذا العقد الجديد. كلِّي ثقة، وبناءً على سجل الخدمة في لبنان وسوريا، أنّ المسيحيين العرب سيكونون رائدين في إظهار محبّتهم لله. وسيتذكّر أبناؤهم وأحفادُهم قصص والديهم وأجدادهم، الذين أظهروا محبّة المسيح بفعاليّة على الرغم من الظروف القاهرة. سيتذكّرون اشتراكهم بقوّة الصليب بدلًا من قوّة السيف. وها الرجاء يحوّل نوحنا إلى فرح.
[1] Mbaye, Samba, and Marialuz M. Badia. “New Data on Global Debt.” IMF Blog, January 2, 2019. https://blogs.imf.org/2019/01/02/new-data-on-global-debt/ . Accessed February 7, 2020.
[2] “America’s Aggressive Use of Sanctions Endangers the Dollar’s Reign.” The Economist. The Economist Newspaper. Accessed February 7, 2020. https://www.economist.com/briefing/2020/01/18/americas-aggressive-use-of-sanctions-endangers-the-dollars-reign.)
[3] المرجع السابق نفسه.
[4] Costas, Orlando E. Christ Outside the Gate: Mission Beyond Christendom. Eugene, OR: Wipf & Stock, 2005, page 182.