بقلم وسام الصليبي
تقع كنيستي في جنيف-سويسرا في شابيل دو لوراتوار في الشارع السابع طبازان. ويوجد خارج الكنيسة، وفي القاعة الرئيسة، لوحان تذكاريان لاجتماع الجمعيّة الإنجيليّة في جنيف والذي عُقد في 29 يونيو/حزيران من سنة 1859، حين أُرسِلَت أوّل بعثة إنسانيّة تهدف لرعايّة الجنود الجرحى في معركة سولفرينو. تحوّلت هذه البعثة بعد بضع سنوات إلى الصليب الأحمر الدولي.
تنتابني الرهبة حيال هذه الكنيسة التي تتردّد إليها أسرتي عدّة مرات في الشهر بهدف العبادة، فهذه الكنيسة قد حشدت دعمًا لبعثة أثرّت في مليارات الأرواح – إنقاذ الأرواح، لم شمل العائلات، العثور على مفقودين، معالجة الجنود، إعادة الأسرى، والحفاظ على المدنيين. لقد خرج رجال ونساء من هذه الكنيسة لإنقاذ أرواح جنود جرحى في ساحة المعركة، وذلك بغض النظر عن الجهة التي ينتمون إليها.
لقد عمِل كلّ من هنري دونانت، غوستاف مينير، لويس أبيا، وآخرون على التقليل من آثار الحرب على الإنسانيّة، رغم عدم مقدرتهم على إيقافها. لقد كان هؤلاء مسيحيين، إنجيليين وأشخاص رؤيويين آمنوا بموت السيد المسيح وقيامته وبصورةاللهفي الإنسان كما يعلنها سِفر التكوين 1: 27.
وإذا ما انتقلنا سريعًا لعام 1936، فإننا نتقابل واللاهوتي كارل بارث الذي كان قام بدورٍ فعّال في وضع إعلان بارمن وإصداره، وهو مناهض للنظام النازي في محاولته للسيطرة على الكنائس. كتب بارث متأملًا بالإنجيل في الشأن العام أن إذا كان ما من علاقة بين التبرير الإلهي والعدالة الإنسانيّة، فإنّ الكنائس إمّا أن تتحول حصرًا إلى مجتمعات روحيّة، أو أن تتوقف عن تناول المسائل المجتمعيّة، أو أن تمسي مجتمعات تسعى لإحقاق العدالة الإنسانيّة القائمة على الشرائع البشرية، بمنأى عن الكلمة والإعلان الإلهيين للإنسان.
فلننتقل الآن إلى يوم الأحد في 28 يناير/كانون الثاني من سنة 1940. لقد ألقى شارل مالك عظة في الكنيسة الإنجيليّة الوطنيّة في بيروت بعنوان “طرق الخلاص”. حاجج مالك بمهارة، في عظة لا تزال ساريّة التطبيق ليومنا هذا، أنّ لا الماديّة ولا الاشتراكيّة ولا القوميّة ولا العلم ولا الفلسفة يمكنها أن تنقذ الإنسان من “الحيرة الوجوديّة التي تمزق قلبه”. فقط المسيح الذي “صُلب على عهد بيلاطس البنطي، وتألم وقُبر وفي اليوم الثالث قام من بين الأموات” هو من يخلِّص. ومالك، سفير لبنان لدى الأمم المتحدة في نيويورك عام 1948، بات لاحقًا أحد خمسة أعضاء لصياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإعداده.
لا بدّ بالنسبة إلى هنري دونانت، كارل بارث وشارل مالك ترجمة التبرير الإلهي إلى نشاط ملموس في الشأن العام فيما يتعلق بالعدالة الإنسانيّة.
وإذا ما انتقلنا سريعًا مجددًا لعام 2018، فلقد فاز دينيس موكويغي من جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة، وهو طبيب نسائي كونغولي وقس في الكنيسة الخمسينيّة، بجائزة نوبل للسلام لعلاجه النساء اللاتي نجين من الاغتصاب على أيدي المتمردين المسلحين.
وأيضًا في عام 2018 في سويسرا، اقتيد القس نوربرت فالي، وهو الرئيس الأسبق للاتحاد الإنجيلي السويسري، من قِبَل شرطيين بينما كان يقود خدمة العبادة يوم الأحد في كنيسته- أمام أعين المصلين المنذهلين- وذلك لاستجوابه في قسم الأمن. ما هي الجريمة الجنائيّة التي ارتكبها؟ لقد وفّر المأكل والمأوى من حين لآخَر لرجل مشرّد من توغو، كان قد رُفض طلبه للحصول على اللجوء.
وقد توجه الأسقف إلياس تابان، وكان رئيس الاتحاد الإنجيلي في السودان آنذاك، للولايات المتحدة عام 2012، برفقة الاتحاد الإنجيلي العالمي والرابطة الوطنيّة للإنجيليين، لمناصرة مسألة دعم إنشاء معاهدة لتنظيم تجارة الأسلحة. وصرّح تابان، وهو كان من الأطفال المجنّدين؛ “أرى أنّ الأسلحة صغيرة الحجم والذخيرة قد ألحقت أضرارًا أكبر وزهقت أرواحًا أكثر من تهديد الأسلحة النوويّة التي نشعر حيالها بقلق شديد”.
وصدر عن المَجمع الأعلى للطائفة الإنجيليّة في سوريا ولبنان في فبراير/شباط من عام 2020 بيانًا أدان فيه “صفقة القرن” للسلام، والتي قدمتها إدارة ترامب، وقد أشار المَجمع لمعارضته هذه على أساس التفويض الكتابي للحق والعدالة.
وفي الشهر عينه، وفي تقرير أجرته قناة الجزيرة الإخباريّة حول الإتجار بالنساء للعبودية الجنسيّة في لبنان، جسّد رجل وزوجته العلاقة بين التبرير الإلهي والعدالة الإنسانيّة على “مستوى الشارع”. تواصل الزوجان بول وراي، وهما مسيحيون يسوعيون، مع أشخاص يُتاجَر بهم جنسيًا، وذلك على حساب سلامة الزوج الشخصيّة، والدافع كما تقول قصّتهم، “إرساليتهم المسيحيّة للمساعدة”.
وغالبًا ما يُتَّهَم المسيحيون في إطار عملي، وبخاصّة الإنجيليون منهم، بالقبليّة، بانتهاك حقوق الإنسان، ودعم الزعماء الشعبويين والاستبداديين، والسعي وراء صفقات سياسيّة تضرب بالمبادئ تواطؤًا مع أهل السلطة. يقول يسوع في إنجيل متى ٥: ١٦ “فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ”. علينا بالسعي للأعمال الصالحة بغرض الدفاع عن حقوق الإنسان، وذلك لكي يرى الناس أبونا السماوي ويمجدوه. غير أنّه ما الذي يمكن أن نتعلّمه ممّا قام به بولس، الأسقف تابان، القس فالي، كارل بارث، وغيرهم؟
أبعد من حدود القوميّة. لم يقل أيّ من الأشخاص ضمن الأمثلة المذكورة آنفًا “بلدي أولًا”. على العكس من ذلك، فهُم قاموا بدور السامري الصالح الساعي لمساعدة الجريح، الذي لم يكن يعرف لأيّة مجموعة ينتمي، بل ما يعرفه فقط هو أنّه شخص محتاج.
أبعد من السياسات الداخليّة والسياسة العامة. يواجه المسيحيون في كلّ أمّة تحدي تعزيز رؤيّة سياسيّة من الرحمة والعدالة ضمن مجتمعهم وأيضًا ضمن سائر المجتمعات وبين الشعوب. والمطلوب هو تواجد سياسات خارجيّة تعزِّز سيادة القانون والحق في الحياة في شتّى أنحاء العالم. وقد شدّد العالِم الإسباني لاس كاساس في دفاعه عن تجذُّر إنسانيّة الهنود في الأمريكتين المكتشفة حديثًا بقوله “إنهم إخواننا، وإنّ المسيح قد مات من أجلهم”.[i]
أبعد من الحياة في الرحم. يشمل الحق في الحياة، وبالإضافة إلى الحياة في الرحم، تنظيم القوانين واستخدام مبادئ التسلح، وقوانين النزاع المسلح التي من شأنها أن تحمي المدنيين، والحد من استخدام الأسلحة على الصعيدين الوطني والدولي، وإحلال السلام، ومكافحة حالة عدم الشرعيّة والقتل الخارج عن القانون، وغيرها من الحالات. تدعونا الحاجة للدافع بشراسة عن كامل الحق بالحياة، وذلك تمامًا كما ندعو للحفاظ على حقوق الذين لم يولدوا بعد.
أبعد من مناصرة حريّة المعتقد الديني. علينا بالانتقال من الدفاع الحصري عن الحريّة الدينيّة نحو مناصرة تعزيز حكم القانون وتدعيم أداء حقوق الإنسان وتمكين تدابير مكافحة الفساد. تحفظ سيادةُ القانون الحريّةَ الدينيّة للجميع. لم يواجه بول وفقًا لمقال موقع الجزيرة الإخباريّة المذكور آنفًأ اتجارً بالبشر فحسب بل انهيارًا لحكم القانون، والذي قد تجلى في تواطؤ جهاز الأمن. وبناءً على ملاحظاتي الشخصيّة من موقعي في جنيف، فإنّ غالبيّة الاضطهاد الحاصل للمسيحيين اليوم ما هو إلّا نتيجة لانهيار حكم القانون بين الأمم والفساد المستشري ضمن الأنظمة السياسيّة والقانونيّة. ولهذا، إنّ رسالة مكتب الاتصال التابع للاتحاد الإنجيلي العالمي في جنيف هي الدعوة لسيادة القانون، وذلك على الرغم من أنّ معظم نشاطنا يصبّ في دعم الحقّ لحريّة الدين والمعتقد.
يعاني الرجال والنساء والأطفال في يومنا هذا، على غرار سولفرينو في عام 1859، ويموتون بسبب الإهمال أو الجهل أو التواطؤ. لا يمكن لجسد المسيح أو لا ينبغي عليه أن يعكس مواقف مشابهة وظلمًا دنيويًا. نحن مبرّرون بالنعمة. وكما كتب بارث، بسبب حالة البِر هذه- أي عمل الله بالنيابة عنا- إنّ المسيحيين مدعوون للدفاع عن حقوق الأبرياء المهددين والفقراء المضطهدين والأرامل والأيتام والغرباء. [ii]
[i] Brian Tierney, The Idea of Natural Rights-Origins and Persistence, 2 Nw. J. Int’l Hum. Rts. 1, 2004
[ii] Karl Barth, Church Dogmatics, 2/1:386