بقلم إيلي حدّاد
لا يزال كثيرون منّا يكتبون في موضوع الانتفاضة الأخيرة في لبنان محاولين اكتشاف كيفيّة استجابة شعب الله لأزمة كهذه. ونواصل صراعنا مع السؤال الكبير: ما هو دور الكنيسة في المجتمع؟ سيفتح مؤتمرنا في حزيران/يونيو منصّة جيّدة لمتابعة الحديث حول هذا الموضوع. فمؤتمر الشرق الأوسط لهذا العام سيكون تحت عنوان الإنجيل في الشأن العام: أسُس كتابيّة للانخراط في الحياة السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم.
لقد تأمّلت في مدوّنتي الأخيرة في دور الكنيسة كمجتمع كهنوتي. وقد ذكرت فيها أنّ الكنيسة مجتمعًا رائدًا. سأحاول ضمن هذه المدوّنة أن أشرّح تشريحًا مفصّلًا ما معنى أن تكون الكنيسة مجتمعًا رائدًا.
لقد استخدم الكثيرون من علماء اللاهوت والأخلاق هذه اللغة، ومن أبرزهم ه. ريتشارد نيبور. وقد استخدم ديتريتش بونهوفر لغة مماثلة للكنيسة بوصفها وكيلة أو مفوَّضَة. واستخدم جون هوارد يودر لغة المجتمع البديل ليشير إلى المفهوم عينه. وقد دمج كلّ من غلن ستاسِن ودايفد غوشي هذه الأفكار المتنوّعة في العديد من كتاباتهم. [1] سأعود لستاسِن وغوشي في سياق هذه المدوّنة.
تتصرّف الكنيسة كمجتمع رائد عندما تكون متقدّمة أمام العالَم، وهي تقود العالَم في ضوء تجاوبها مع مشيئة الله وارشاده. ويكون هذا عندما تتحرّك الكنيسة بالنيابة عن العالَم، مشكّلةً نموذجًا للعالَم يجسِّد طريقة مختلفة في الاستجابة للواقع السائد. بالطبع، أن تكون الكنيسة رائدة ليس ميزة ذات قيمة بحدّ ذاتها. ولا قيادة الآخرين. الغرض من هذه اللغة هو تسليط الضوء على أهمية التأثير في العالم بدلاً من التأثر به. الريادة هي الرغبة في أن تكون أمينًا لله حتى عندما لا يكون أي شخص آخر أمينًا، وأن تستكشف طرقًا جديدة للتأثير في العالم لله. ما هي الريادة إلاّ أن نقول نعم لله وأن نقول لا للعالَم.
يتمثّل التحدي أمام الكنيسة بأن تقود العالَم بدلاً من أن يقودها هو. وهذا ليس بالأمر السهل. نحن نعيش في العالَم ونميل لأن نستوحي معاييرنا منه. من الأسهل أن نتجنّب التأثُّر في العالَم حين يقدّم لنا خطيئة صارخة. غير أنّه من الأصعب أن نميّز النواحي التي لا تبدو مؤذيّة أو مضرّة. يسمّي كلّ من ستاسِن وغوشي هذا الأمر “الأَسر الأيديولوجي” للعالَم.
فنحن نميل، على سبيل المثال، لاستنباط تعريفنا للنجاح ومقوّماته من العالَم. ولمَ لا؟ فالسعي وراء تعلُّم أفضل، راتب أعلى، مكانة اجتماعيّة أرقى، ومسؤوليات وسُلطة أكثر ستؤدّي إلى تأثير أفضل في العالَم. ما من عيب جوهري في أيّ من هذه الأمور، إلاّ إذا أمست هدف حياتنا وقصده. ما مِن عيب بالسعي وراء مسار مهنيّ مزدهر. غير أنّه حين يغدو هذا الأمر هدفي في الحياة فسيتحوّل لا محالٍ إلى وثنٍ يستعبدني. فسأبدأ بالقيام بالعديد من التسويات والمساومات في سبيل تحقيق هذا الهدف. وتبيت خدمة الله أمرًا ثانويًّا.
ماذا عن الكنسيّة في صباح يوم الأحد؟ هل نقيّم وقتنا معًا على أساس مدى جودة أدائنا؛ احترافية الموسيقى وجودة العظة مثلاً؟ أو أنّنا نقيّم تجربتنا الكنسيّة على أساس مدى تغيّر حياتنا؟ يجب تعريف النجاح ضمن مجتمع كنائسنا على أساس الأمانة لدعوة الله.
إنّه لمن اليسير أن تتسلّل الأهداف غير المضرّة إلى مجتمع الكنيسة. وتتحوّل هذه الأهداف، والتي من المفترض أن تكون حميدة، إلى أوثان تدفعنا نحو اتخاذ تعديلات صغيرة وتدريجيّة وقد تبدو هامشيّة. وفجأةً نعود لتقييم الأمور وإذ بنا نكتشف أنّنا أمسينا أتباعًا للعالَم. وحتمًا، سنفقد قدرتنا على قيادة العالَم.
المجتمع الرائد هو مجتمع تائب يرغب عمدًا على نحوٍ مخالف للتيّار السائد. أوّل ما يقوم به المجتمع الرائد هو تطهير نفسه بتحديد خطايا العالَم التي زحفت إلى الكنيسة، ومن ثمّ التوبة عنها. يمكن أن تنقّي الكنيسة نفسها من خلال عزل نفسها عن العالَم. غير أنّ هذا ليس ما يقوم به المجتمع الرائد. وعوضًا عن ذلك، تطهّر الكنيسة نفسها من خطايا العالَم لكي تتمكّن من البقاء في العالَم بهدف انخراطها معه لتكون قدوةً رائدة في العيش بأمانة.
يحمل المجتمع التائب مسؤوليّة أفعاله أو عدمها، ومسؤوليّة طريقة تأثير هذه الأفعال في العالَم بدلاً من أن يشير بأصابع الاتهام نحو أفعال الآخرين.
المجتمع الرائد يقود بصورة مغايرة. في زمن الأزمات السياسيّة، الاقتصاديّة أو انتشار الأوبئة لا يستجيب المجتمع الرائد بالخوف، الهلع أو حفظ الذات. بل يستجيب المجتمع الرائد بالاعتراف بسيادة الله واتكاله الكامل عليه وبالاهتمام بالآخرين. من السهل أن ننشغل باحتياجاتنا الخاصة في وقت الأزمات. غير أنّ المجتمع الرائد يهتم بعافية الآخرين وخيرهم.
المجتمع الرائد يرعى مجتمعه. يستخدم نيبور صورة الكنيسة كراعٍ، وذلك ليس من منطلق سلطوي ولكن بكونها خادمة وراعيّة للمجتمع من منطلق المحبة للخطأة والمنكسرين. إنّ المجتمع الرائد هو مجتمعٌ يبذل ذاته لأجب الأخرين.
المجتمع الرائد سياسي، يهتم بشؤون مجتمعه العامة. ومع هذا، لا يأخذ المجتمع الرائد طرفًا مع مطلَق حزب سياسي أو نظام سياسي. لقد شهدنا العديد من الأمثلة، في سياقنا وفي سياقات أخرى، لمجتمعات كنسيّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمواقف سياسيّة معينة. وهذا الأمر يضرُّ بشهادة الكنيسة للمجتمع. وستفقد الكنيسة كمجتمع سريعًا قدرتها على تناول الأمور بحياديّة، وسيفقد هذا المجتمع مصداقيته كصوت للملكوت. لا يمكن لمجتمع الكنيسة أن يتماشى مع المواقف السياسيّة ومع ملكوت الله في الوقت عينه. سيبقى المجتمع الرائد على مسافة واحدة من جميع الجهات من الأطراف السياسية، وذلك ليتمكن من تسليط الضوء على ما هو خطأ وما هو صواب عبر الأفق السياسي.
المجتمع الرائد هو مجتمع حاضن. لا يتسامح هذا المجتمع مع أي نوعٍ من أنواع العنصريّة أو التحيز. لن يعلِّم المجتمع المنقسِم والمنفصل أيّ أمرٍ للعالَم عن الوحدة والتكامل، أو عن المحبة والقبول.
المجتمع الرائد يجازف ويرغب بالذهاب إلى حيث لم يذهب أيّ مجتمع آخَر. لا يقارن هذا المجتمع نفسه بالمجتمعات الكنسيّة الأخرى ولا يتبع اتجاه الأغلبيّة، فإنّ هذا يؤدي إلى القصور في الفعاليّة. إنّ المجتمع الرائد على استعداد لترك مكانه الآمن، إذ به يجد أمنه في الجبهة الأماميّة حيث يريده الله أن يكون لينخرط في العالَم.
المجتمع الرائد يخلو من أي شركٍ مع العالَم. كما ويخلو من الشرك مع التقاليد المتوقَّعَة التي فقدت معناها أو الأعراف الدينيّة التي أمست متصدِّعة. يحرّر المجتمع الرائد نفسه من أي تأثيرات ليغدو بوصلة أخلاقيّة للمجتمع.
ليست المشكلة في العالَم بأنّنا نواجه أزمة تلو الأخرى. هذا أمرٌ متوقعٌ في عالَم ساقط. تكمن المشكلة مع العالَم بأنّ كنائسنا لم تعد النموذج الرائد الثابت للأمانة. وضع الله في جوهر تصميمه للكنيسة أن تكون مُرسَلة إلى العالَم بغية المشاركة في إرساليته الهادفة لفداء كلّ الأشياء. صلاتي أن تصير كنائسنا مجتمعات مرسليّة رائدة، بحيث يتمكن الله من استخدامها لتغيير العالَم.
[1] Example: Glen H. Stassen and David P. Gushee, “Politics: Toward a Christian Social Ethic of Salt, Light and Deeds,” in Evangelical Ethics: A Reader, ed. David P. Gushee and Isaac B. Sharp (Louisville, Kentuchy: Westminster John Knox Press, 2015).