بقلم مارتن عقاد
لقد حصد لبنان في هذا العام الدراسي (2019-2020) حتّى الآن ثلاثة أوبئة: انهيار نظامنا السياسي، انهيار اقتصادنا، وانهيار صحّتنا العامة. مَن كان ليتوقّع أنْ نستخدم هذه الكلمات الثلاث في جملة واحدة؟ ورغم كوني قد نشأتُ خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة منذ منتصف سبعينات القرن العشرين، وكوني شهدت أوّل انهيار هائل لعملتنا الوطنيّة في ثمانينيات القرن نفسه، بحيث انخفض سعر الليرة اللبنانيّة من 3.5 ليرات مقابل الدولار الأمريكي إلى 1500 ليرة، وذلك في غضون بضعة أشهر، لم أعتقد قط أنني سأعيش لأشهد الانهيار الوشيك لنظامنا السياسي والاقتصادي والصحي في عامٍ واحد. إنّ فيروس كورونا المستجد الملقَّب بالفيروس التّاجي، والذي جعل عالمنا يركع أمامه، هو تشبيه مجازي يشير لكلّ ما يعترينا من أخطاء اليوم. ولكن هل يمكن أنْ يكون أيضًا تشبيهًا لما قد يكون صوابًا؟
لقد ظهرت بوادر انهيار النظام السياسي، منذ اندلاع الثورة المعادية للطائفيّة والتي حشدت الجماهير اللبنانيّة في 17 أكتوبر/تشرين الأوّل 2019، هذا النظام الذي السقيم بالسياسات المتطرّفة والتديّن المتطرف. وقد انحسرت الثورة إلى حدّ كبير منذ ذلك الحين نتيجة الانهيار الاقتصادي المُعَلَّق، وهي ما زالت في انحسار بسبب محدوديّة التواصل الاجتماعي الذي فرضه هذا المرض الفيروسي. هذا ولم تكن الأزمة الاقتصاديّة نتاج الثورة، بل جاءت حصيلة عقود من الفساد، الزبائنيّة وسوء الإدارة الماليّة ضمن النظام اللبناني السياسي.
أدخِل فيروس كورونا المستجد على خشبة المسرح العالمي – اعتبره تشبيه مجازي للمرض الفيروسي الضارب في التطرّف السياسي، والذي عزّزه عقود من تفاقم التطرّف الديني طوال القرن العشرين. يشكّل لبنان صورة مُصغَّرة ومجازية لفيروس هاجع كان قد احتُضِن لعقود من الزمن في جميع أنحاء العالم وقد تجلّى أخيرًا على مدى العشرين عامًا الآنفين عبر درجات غير مسبوقة من العنصريّة، رُهاب الأجانب، إغلاق الحدود، تشريد السكان، والعنف. إنّ النُظم الاقتصاديّة الفاسدة والزبائنيّة، والتي قد انكشفت على نحو حادّ وفاضح في لبنان منذ أكتوبر/تشرين الأوّل 2019، كانت هي السّائدة في العالم أيضًا منذ عقود. وما لا شكّ فيه أنّها عاملًا بارزًا لنشأة التطرّف الديني، وهو تشخيص ظهر بوضوح خلال القرن العشرين.
وإذا كانت منظّمة الصحة العالميّة قد اعتبرت أخيرًا أنّ فيروس كورونا هو وباء عالمي، فهل يمكن أنْ تشكّل الخطوات الوقائيّة منه كناية عن معالجة “أوبئة” أخرى؟ تبرز كلمتان عندما يفكّر المرء فيما هو أبعد من المأساة والهلع المحيطَين بفيروس كورونا المستجد؛ التضامن العالمي.
في حين تتّخذ الحكومات في شتّى أنحاء العالم إجراءات حازمة لحماية مواطنيها، حتّى أنّ داعش قامت بإصدار تحذير من السفر لأعضاء مجموعتها الإرهابيّين في 15 مارس/آذار حيث نصحتهم بتجنب السفر إلى أوروبا. (وقد يكون تعليق العمل الإرهابي في مواجهة كورونا الموقف الأكثر سخريّة لهذا العام!). ولكن، وفيما هو أبعد من التطرّف، فقد فرضت هيمنة الوباء في سياقات عديدة على وسائل الإعلام العالميّة تعليق تطرقهم لمسائل الانقسام الديني والعرقي وخطاب الكراهيّة، وذلك بغية مواجهة شرّ أكبر. وبينما يواجه الجميع موتهم، تمّ تعليق الكراهيّة، وذلك نتيجة الشعور بالتضامن النابع من إنسانيتنا المشتركة.
ونشهد أيضًا، وعلى نحو مفاجئ، تعليق الاتجاهات الاقتصاديّة الأنانيّة ضمن الحكومات وعبرها، بحيث أدرك بعض الفاعلين السياسيّين أنّ مجتمعاتنا مترابطة اقتصاديًّا فيما بينها. فانهالت وبسرعة البرق الإعفاءات الضريبية من قِبل الحكومات، ووعود التعويض المالي للبطالة، وإعلانات الرعايّة الصحيّة الشاملة لمحاربة الوباء ضمن العديد من البلدان. بات لمسألة السيطرة على المرض الأسبقيّة على الرّبح المالي… وهذا لبعض الوقت على الأقل.
غير أنّه كان لفيروس كورونا تأثير على ميولنا الفرديّة والأنانيّة أيضًا. فعلى الرغم من معرفة الأصغر سنًا ومن يتمتّعون بصحّة جيدة أنّ للفيروس تأثر أقلّ خطورة عليهم، إلّا أنّ معظمنا، فجأة وبهدوء، امتثلنا لتعليق راحتنا الشخصيّة ومصالحنا الذاتيّة في سبيل حمايّة من هم أكثر عرضة للخطر في مجتمعاتنا. وأمسينا مستعدين على استعداد لإقفال مطاعمنا، مراكز التسوّق، دُور السينما والمدارس، وفرضنا على أنفسنا الحجر الصحي في منازلنا، وذلك من بغية الحدّ من انتشار المرض والحفاظ على المرضى وكبار السن بيننا.
لا تعكس هذه الصورة الفداء بكافة جوانبه. فثمة أيضًا من سارعوا بأنانيّة لتخزين المؤن على حساب الآخَرين. السياسيون الذين يوجّهون أصابع الاتهام ويلقون اللّوم على العوامل الخارجيّة لإدخالها المرض إلى بلادهم – سعيًا لتسجيل نقاط في هذه الأوقات المأساويّة – يذكّروننا أنّ أنانيّتنا البشريّة وسياساتنا المتطرّفة لا تزال تقاوم آفة الفيروس.
عندما يطبق الخوف قبضته، يبدو أنّ التضامن يتغلّب – حتى ولو لبرهة – على ذهنيّتنا المتعصّبة وأنفسنا الأنانيّة، وذلك في محاولة جاهدة للدّفع بتفشي المرض والموت بعيدًا. قد يكون الخوف والألم مفيدَين للبشر. إذ يلاشيان ضباب تركيزنا على راحتنا الشخصيّة. يجعلنا الخوف والألم أكثر تقبُّلاً لأولئك المختلفين عنّا، وأكثر سخاءً تجاه أولئك الذين يملكون أقلّ منّا، وأكثر عناية بالأضعف منّا. هل يمكن لهذا الوباء العالمي أنْ يجعلنا أكثر إنسانيّة… لبرهة على الأقل؟ يا ليتنا نتذكّر هذه العِبَر في غضون بضعة أشهر، وذلك عندما تعود المياه إلى مجاريها. ستكون مجتمعاتنا أقرب للعيش بحسب قيم ملكوت الله التي أعلنها يسوع:
“طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ،
لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ.
طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ الآنَ،
لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ.
طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْبَاكُونَ الآنَ،
لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ… (لوقا 6: 20-21)
وَلكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ،
لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ.
وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الشَّبَاعَى،
لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ.
وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ،
لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ. (لوقا 6: 24-25)
يبدو أنّ التضامن مع إخواننا من البشر – يقع في جوهر تعليم يسوع. فنؤجّل شبعنا لصالح عافية الآخرين التي تعتمد على رغبتنا بمشاركة موارد كوكبنا، الأرض. سيكتشف علماؤنا اللقاح قريبًا، وستتعزّز مناعة الإنسان؛ سترتفع درجة حرارة الجو ولعلّها ستحدّ من عمر الفيروس. ستعود المياه إلى مجاريها. ولكن هل سنتذكّر هذه العِبَر من زمن الوباء حين شارف عالمنا على نهايته؟ للأسف، إنّ معظمنا لن يتذكّر ذلك، غير أنّ بعضنا سيتذكّر. هَلاّ نُكرم ضحايا فيروس كورونا من ووهان في الصين إلى كوذونغو في لومباردي في إيطاليا – من خلال التمسّك بالقيم المكتسَبة في زمن الوباء الذي أودى بحياتهم؟ هل ستنذكّر قيم ملكوت الله ونطبّقها بعد انقضاء زمن المأساة والمعاناة والموت؟