بقلم وسام نصر الله
ثمة ما ينتشر أسرع من فيروس كورونا ألا وهو الخوف: الخوف من المجهول، الخوف من عدم السيطرة على زمام الأمور، الخوف من خسارة سُبُلَ معيشتنا، والخوف من أنْ نتحوّل لمنبوذين اجتماعيًّا إذا ما أُصِبنا بالفيروس أو إذا عطسنا ببساطة. [1] غير أنّ الخوف الأكبر هو خوفنا من الموت.
قد يكون الخوف مفيدًا في حالات معيّنة إذ يقينا من الأذى. فهو يحفّز فينا حالة تأهب جسدي تمكّننا من “المواجهة أو الهروب” عند مواجهة تهديد أو خطر داهم. وينسحب هذا الأمر على فيروس كورونا، إذ يدفعنا الأمر لالتزام منازلنا واتّخاذ التدابير الوقائية الاجتماعيّة والنظافة الضروريّة، فالخطر حقيقي وهو يتقدّم يُهدِّد الحياة.
غير أنّ للخوف مفاعيل سلبيّة أيضًا. فالخوف قد يحول دون أنْ نقوم بما نودّ القيام به أو حتّى ما قد نحتاج أن نقوم به. ويمكن للخوف من الناحيّة الاجتماعيّة أنْ يُسبِّب هلعًا واسع الانتشار، من شأنه أنْ يُهدّد مقدرة منظومة ما على الاستجابة على نحو سليم لحالة طارئة. إنّ هلع شراء ورق المرحاض أو علب التونا هو شيء، وأمّا استنزاف نظام الرعايّة الصحيّة بالذهاب إلى غرف الطوارئ في كل مرّة يُصاب أحدهم بنزلة برد لهو شيء آخَر.
ولكن دون أن نصرف النظر عن المعركة التافهة الحصول على ورق المرحاض. فهذا يكشف أمرًا دفينًا في أعماقنا، وبخاصة عندما يتغذّى خوفنا على الأخبار القاتمة ومقاطع الفيديو المؤثِّرة على مواقع التواصل الاجتماعي. إنّه خوف الإدمان على التغريدات!
فعلى سبيل المثال، قد تم حديثًا تناقل مقطع فيديو عبر الواتساب في لبنان لرجل وقع أرضًا في مرآب أحد المتاجر الكبيرة. لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه لمساعدته بينما كان يحاول النهوض، وذلك خوفًا من أن يكون مصابًا بفيروس كورونا. وفجأة صار لسان حال الجميع اللّهم نفسي. لقد سلب الخوف من الفيروس في تلك اللحظة أفضل ما فينا من إنسانيّة. لا أعلم ما كنت لأفعل حينها (لا أدري إن كنت سأحتذي حذو السامري الصالح)، غير أنّ مجرّد التفكير أنّي ما كنت لأمدّ يد المعونة يخيفني.
جاءت هذه الاستجابة للحماية الذاتيّة، والتي يطلق عليها عالِم النفس مارك شالر “جهاز المناعة السلوكي” سلبيّة في هذه الحالة. لقد بقي الناس بعيدًا. فلنتصوَّر ردّات أفعالنا لو كان التهديد موجّهًا إلينا بينما سنحتاج للقتال من أجل الحفاظ على حياتنا. فإلى أيّة مدى سنبقى حضاريّين؟ وما مدى سماكة قشرتنا الحضارية التي نلفّ فيها أنفسنا؟ كم تبقّى لنا من الوقت لنعود إلى حالة الطبيعة الهوبيسيانيّة حيث الحياة “كريهة ووحشية وقصيرة”؟
وبعيدًا عن سبر غور عالَم الخيال العلمي الأخروي، إنّ فيروس كورونا لن يؤول بالعالَم غالبًا إلى نهايته في معركة هرمجدون، كما أنّ البشر لم يتحولوا لقردة بعد. غير أنّه، وفي ضوء المجريات الراهنة، حيث أُخضِعَت حضارتنا لاتّضاع وثوابتنا على التزعزع، من المهم أنْ نسأل أنفسنا كمسيحيّين “ما مدى سماكة قشرتنا المسيحيّة؟” هل سيفلح إيماننا أبّان امتحان الخوف، الفوضى، وحتّى خطر الموت؟ أو هل نحن مسيحيّون أمناء طالما أنّ الوضع مواتٍ لنا؟
فلنعد بتفكيرنا لبضعة أشهر، هل كنّا قلقين ومدفوعين بالتعاطف حينما كان فيروس كورونا أزمة صينيّة تودي بحياة المئات في الصين؟ وحتّى بعد وصول الفيروس على عتباتنا، فكثيرون لم يهتمّوا للأمر باعتبار الفيروس يصيب “حصرًا” فئة عمريّة محدَّدة أو أشخاص يعانون من مخاطر صحيّة.
أسأل نفسي، بينما نحجر أنفسنا في منازلنا ونلغي اجتماعاتنا الكنسيّة وتجمّعاتنا (وبرأيي هذا عين الصواب)، “كيف يمكن للكنيسة أنْ تكون مجتمَعًا رائدًا في أوقات كهذه؟ يصف إيلي حدّاد، رئيس كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، في مدوّنته بتاريخ 12 مارس/آذار الأمر كالتالي: تتمثّل ” الريادة هي الرغبة في أن تكون أمينًا لله حتى عندما لا يكون أي شخص آخر أمينًا، وأن تستكشف طرقًا جديدة للتأثير في العالم لله”. قد يبدو طرح سؤال كهذا في هذا الزمن ضربًا من الجنون. لا ينبغي أن يكون هذا هو الحال لمن تحرّروا من الخوف من الموت. قد حان الوقت للعناية بالآخَرين من مستضعفين ومتروكين ومشاركتهم الرجاء الذي لنا في المسيح.
شعرت بالتواضع حين سمعت قصّة بعض المؤمنين في ووهان الذين نزلوا الشوارع ليوزّعوا أقنعة ومعهم كتيِّبات حول المسيح. وعلى المنوال نفسه، وأثناء تفشّي وباء الكوليرا في شارع برود عام 1854 في لندن، قام شارلز سبيرجن بزيارة المرضى، الصلاة معهم ومشاركتهم إنجيل المسيح. وقد تحدّى المسيحيين في عظة أخرى ألقاها عام 1866 خلال تفشٍّ آخَر للكوليرا قائلًا:
“(…) الآن هو وقتكم يا من تحبّون النفوس. قد ترون الآخَرين متوتّرين أكثر بعد؛ وإنْ كان عليهم أنْ يكونوا كذلك، فلِما لا تغتنموا الفرصة لفعل أمر مفيد لهم (…) أنتم تعلمون عمَّن مات ليُخلِّص؛ أخبروهم عنه. ارفعوا رايّة الصليب نصب أعينهم. أخبروهم أنّ الله صار إنسانًا لكي يُرفَع الإنسان إلى الله. أخبروهم عن الجلجثة، وآلامها، وصرخاتها، وعن قطرات العرق التي تحوّلت دمًا. أخبروهم عن يسوع الذي عُلِّق على الصليب ليخلِّص الخطأة. أخبروهم “أنّ الحياة تنتظر كلّ من ينظر إلى الصليب”.
لا تخلو هذه الإرساليّة من المخاطر والتحديات. لم يعِد المسيح بالمناعة بل وعد أنّه الماسك بزمام الأمور، بينما نتذكّر كلمات النبي إشعياء: “لاَ تَخَفْ لأَنِّي مَعَكَ. لاَ تَتَلَفَّتْ لأَنِّي إِلهُكَ. قَدْ أَيَّدْتُكَ وَأَعَنْتُكَ وَعَضَدْتُكَ بِيَمِينِ بِرِّي”. (إشعياء 41: 10)، أُحَيّي الكنائس والمؤسّسات المسيحيّة في لبنان التي توزِّع مجموعة أدوات تنظيف وتعقيم وتصل للمجتمعات المهمّشة في هذا الوقت.
هذا هو الوقت المناسب لنا كمسيحيّين أنْ نزيد من محبّتنا ورعايتنا لجيراننا ومجتمعاتنا. غير أنّه لا يجب أنْ يغيب عنّا أنّ “ضَرْبَةَ القَلْبِ” (1 ملوك 8: 38) أشدّ فتكًا. إنّ أحد أنجع الطرق لمحاربة فيروس كورونا هو الفعل البسيط والأساسي بغسل الأيدي، والذي يبدو مفاجئًا بالمقارنة مع تأثير الفايروس على الإنسانيّة. وبالطريقة عينها، إنّ لضربة القلب حلّ فعّال وبسيط: أنْ نغسل نفوسنا بدم المسيح الكفّاري.
“يا طبيب روحي السقيمة،
إليك آتي بحالي،
الجم دائي الثائر،
واشفني بنعمتك.
أشفق على كربي،
انظر إلى رثائي وأنيني،
فلا دواء لدائي
من يدٍ سواك.
(…)
يا ربّ إنّي سقيم، اسمع صراخي،
وأعتق روحي:
أنت الذي لا تترك خاطئًا للموت،
من يرنو قلبه للحياة معك.”
جون نيوتن
[1] لقد اضطرت طائرة للهبوط في الولايات المتحدة عندما انزعج العديد من المسافرين بسبب جلوسهم بجوار مسافر كان يعطس ويسعل، وقد تبيّن لاحقًا أنّها حساسيّة!