الإعلان عن محادثات الشرق الأوسط 2020
مايو 14, 2020
عن التّونة، الإيمان والاقتصاد!
مايو 28, 2020

آلهتنا تحترق

بقلم روبرت حمد

جميعنا متأثّرون. منذ بداية الاحتجاجات الشعبيّة حتّى الانهيار الحالي لليرة اللبنانية والجميع متأثّرون. وما يميّز الحقبة الراهنة عن سالفتها الدمويّة خلال الحرب اللبنانيّة الأهليّة (1975-1991) هو أنّنا لا نستطيع الآن أن نتلطّى خلف تحالفاتنا الدينيّة أو السياسيّة لننتظر منها إنقاذنا أو خلاصنا من الهلاك. لن تتمكّن أيّة واسطة، ومهما عظُمَت، أن تنشلنا من هذا المأزق. ويبدو أن آلهة الطائفيّة، العسكريّة، والنخبويّة، باتت تحترق على مذبح البنك المركزي. فقد أحرق المتظاهرون عشرات الفروع المصرفيّة منذ أواخر نيسان/أبريل الفائت.

جميعنا متأثّرون. ما من أحدِ في بلدنا الصغير هذا يمتلك بطاقة “الخروج المجّاني من السجن”، فيما نحن جميعًا مسجونون في قفص هذه الأزمة الاقتصاديّة. وبالتزامن مع نشر هذه المدونة، يكون 220 ألف شخص قد خسروا وظائفهم (ضمن تعداد سكاني يبلغ 4 مليون نسمة)، ويظن الخبراء أنّ هذا العدد سيستمر بالتصاعد. لقد ارتفعت أسعار السلع الغذائيّة بنسبة 58%، إذ تراجع قيمة ليرتنا مقابل الدولار الأمريكي. ووفقًا لوزير الشؤون الاجتماعيّة رمزي مشرفيّة، إنّ 75% منّا كلبنانيين سنحتاج لنوعٍ ما من المساعدة. [1] نعم، إنّ آلهتنا تحترق.

كيف وصلنا إلى ما نحن عليه؟

يكشف لنا النبي إشعياء جليًا كيفية وصولنا إلى ما نحن عليه. وفي سفر إشعياء 44: 9-20 يخبرنا النبي عن تفاهة الأوثان. ويذكِّر النبيُ القرّاءَ أنّ الوثنيّة ليست مجرد تحدٍّ عابر في الأزمنة الكتابيّة، بل هي عائق دائم يواجه كافة الشعوب وفي كلّ الأجيال. نعم إنّ آلهتنا تحترق، على غرار جميع الآلهة الأخرى التي سبقتها.

يلمّح النبي بمهارة في هذا الجزء المتميّز من النّص إلى قصة الخلق الموجود في سِفر التكوين. تعلّمنا الكتب المقدسة (تك 1: 26، 27، يتردد صداه أيضًا في 5: 1؛ 9: 6) أنّ الله خلق الرجل والمرأة على صورته (صورة الله). لسنا بتماثيل منحوتة تستحق العبادة، بل نحن نعكس صورة خالقنا، الذي يدعونا لنكون وكلاء على خليقته ودعونا لأن نعترف به الإله الحق؛ وتجاوبنا لدعوته يكمن بأن نحب قريبنا كنفسنا.

ظاهريًا يبدو أنّ النبيُ يُظهر الوثنيّة من خلال الصور، الأصنام، والعبادة الزائفة. غير أنّه حينما نتعمّق أكثر نكتشف أنّ للنبي المزيد ليقوله. فهو ينتقد اقتصادً باليًا يحابي مجموعة مختارة من الناس ويترك الغالبية الساحقة من المجتمع عرضةً للمعاناة. وتبرز هذه الفكرة أيضًا في أعمال الرسل 19: 23-41. لقد عبد أهل أفسس الإلهة ديانا، والتي كان يُظَنّ أن تمثالها قد هبط من السماء. لقد تأسّس اقتصاد برمّـته على الأوثان. وفي هذا السياق، فقد تهجّم الذين تعرضوا للخسارة بشراسة على بشارةَ الإنجيلِ، التي قدّمت يسوع على أنّه الطريق، والحق، والحياة الوحيدين، ما كان تحديًا للوضع القائم. بالعودة لسياق سِفر إشعياء، فهو يتناول الاقتصاد القائم على صناعة الاوثان، الحرفيين (عدد 11)، الحدّادين (عدد 12) والنجّارين (عدد 13) والمنتجات في زمانه-وجميعها حيويّة للاقتصاد.

لقد كان النبي إشعياء مهتمًا جدًا بتأثير الاحتيال الاقتصادي والظلم على الجميع في المجتمع. ونراه يستهل كتابه بإدانة المظالم التي نشأت نتيجة الفساد؛ “رُؤَسَاؤُكِ مُتَمَرِّدُونَ وَلُغَفَاءُ اللُّصُوصِ. كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحِبُّ الرَّشْوَةَ وَيَتْبَعُ الْعَطَايَا. لاَ يَقْضُونَ لِلْيَتِيمِ، وَدَعْوَى الأَرْمَلَةِ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِمْ.” (إشعياء 1: 23) يهتمّ الله اهتمامًا شديدًا بالحق والنزاهة، ويدعونا لنعتني بخليقته كوكلاء كما يدعونا لأنّ نحامي عن الضعفاء.

عندما نحوّل الربح المادي إلى وثن ونظنّ أنّ الموارد ستخلّصنا فنصلّي لها “نجّني لأنّك أنت إلهي” (عدد 17)، فهذا لن يعزّز إلا الاقتصاد الشائب وسيشوه ما ينوي الله فعله للمجتمع ككلّ -اقتصاد عادل يصب في خير الجميع. يصف إشعياء الوثن أنّه “كاذب” وتؤدي عبادته إلى نشاطات اقتصاديّة “تُدفئ” النخبة إذ تبرّر لها استغلالها من خلال “صنعها الصنم (الكاذب) و(هي) تسجد له” (عدد 15).

إنّ آلهتنا تحترق

إنّ النظام الاقتصادي في لبنان معرّض للخطر. لقد أخفقت المصارف. لقد “استدفأت” نخبتنا من مال خزينة لبنان الماليّة. ووفقًا لمقال حديث نشرته قناة الجزيرة، إنّ “المستويات غير المسبوقة من الفساد وسوء الإدارة قد أفرغت خزائن الدولة لعقود من الزمن، مخلّفةً البنية التحتية والخدمات تحت وطأة الانهيار”.[2] هذا وقد طُلِب من  اللبنانيين العاديين أن يدفعوا ثمن هذا الاحتيال؛ إذ إنّ المصرف المركزي بات يستولي على حساباتهم المصرفيّة بالدولار الأميركي ويخفض من قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار.

ولكي نفهم كيف آلت بنا الأمور إلى هنا، ينبغي أن نتذكّر أنّه، ومنذ العام 1997، كان سعر صرف الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأمريكي، هو ألف وخمسمائة ليرة لبنانيّة مقابل دولار أمريكي واحد. ومن الامور الأساسيّة التي تجدر الإشارة إليها هي أنّ كلّ الواردات (ويستورد لبنان كل شيء تقريبًا) يُدفع ثمنها بالدولار الأميركي ومن ثم تُبَاع بالليرة اللبنانيّة. تشكّل نسبة ديننا العام بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي واحدة من أسوأ النسب على صعيد العالَم: بين 150% إلى 170% من الدين العام بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. وبعبارة أبسط، فقد عَلِمَ مسؤولونا أنّ الوضع الراهن غير قابل للاستمرار للمدى البعيد، غير أنّهم أبقوا النّظام على حاله، ما رفع من نسبة الدين العام بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في الميزانيّة العامة اللبنانيّة، وما دفع البلد إلى اقتراض مبالغ هائلة من الدولارات الأمريكيّة، وهكذا استمرت سلسلة بونزي ولم تنقطع.

لقد عمِل النظام المربوط بالدولار بسلاسة نسبيًّا، إذ اجتذبت المصارفُ الودائعَ من المغتربين ومن المودعين الأجانب عبر تقديم أسعار فائدة مرتفعة. ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز، “يتطلب الحفاظ على الفوائد المرتفعة استمرارًا لتدفق دولارات جديدة إلى البلد، وذلك عادة عبر إغراء المستثمرين الأثرياء لإيداع مبالغ كبيرة من الدولارات وبأسعار فائدة مرتفعة. استراتيجيّة قارنها بعض الاقتصاديين بسلسلة بونزي”.[3] وقد أنتجت الخطة الماليّة الجديدة هذه نظامًا ماليًا سامًا “يدفئهم”، و”يصنع إلهًا ويُسجد له” (عد 15)، وكلّ ذلك مبنيًا على سوء الإدارة والفساد والاحتيال.

وما زاد الطين بلّة، معاناة المنطقة بسبب الحرب السوريّة المطوَّلة، والتي خلّفت تأثيرًا مباشرًا على اقتصاد المنطقة. وأُعلِنَت في سبتمبر/أيلول حالة من الطوارئ الاقتصاديّة، وقد اقترحت الحكومة زيادة ضريبيّة على الواتسآب (WhatsApp) بهدف تغطيّة النفقات الحكوميّة. ومنذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول اندلعت احتجاجات عارمة، الأمر الذي أدّى إلى تعطيل عجلة الاقتصاد، ثم أعقب ذلك القيود التي فرضتها المصارف على عمليات سحب الدولار، مما أدّى إلى خلق المزيد من الطلب على الدولار، وهكذا وللمرّة الأولى، يتخلّف لبنان عن سداد ديونه من العملة الأجنبيّة. ولاحقًا تمّ إغلاق اقتصادنا، أو ما تبقّى منه، بسبب فيروس كورونا المستجد. هذا هو المكان الذي وصلنا إليه الآن. نعم، إنّ آلهتنا تحترق.

الشجاعة للتغيير

بغية تحقيق تغير مستدام، نحتاج لإلهام أسمى يمدّنا بالشجاعة لمواجهة آلهتنا المزيفة. ويتبادر للذهن قصة يسوع وهو جالس على الشاطئ يصطاد الأسماك (يوحنا 21: 1-19). يُستهّل المشهد بينما يسوع المُقام يعطِّل حياة تلاميذه اليوميّة وأشغالهم. ونرى بطرس، وهو على استعداد لقبول هذا التعطيل، وقد وجد الشجاعة واتخذ الخطوة الأولى ملقيًا نفسه في “البحر” (عدد 7) وسابحًا نحو يسوع، الذي كان بدوره على الشاطئ ينتظره ومعه سمك مشوي. هذا هو الإلهام إلى التغيير الذي أراه في كتابات النبي إشعياء وفي إنجيل يوحنا.

سنحتاج للشجاعة إذا ما أردنا أن نشهد تغييرًا في بلدنا. فأولاً وقبل كلّ شيء، على كافة اللبنانيين المطالبة بالنزاهة والحق ضمن كافة القطاعات العامّة. يعلِّم يسوعُ أنّ “الحق يحرّركم” (يوحنا 8: 32). عندما يطالب اللبنانيون الملتزمون بالقانون بالحق والنزاهة، يصبح لدينا الوسائل لمكافحة الأكاذيب والفساد والإثراء غير المشروع. فلنتذكّر أنّ إشعياء يقولها بالفم الملآن؛ “رُؤَسَاؤُكِ مُتَمَرِّدُونَ وَلُغَفَاءُ اللُّصُوصِ. كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحِبُّ الرَّشْوَةَ وَيَتْبَعُ الْعَطَايَا”. ثانيًا، وللمساعدة في تقويم الخطأ، يتعيّن على الحكومة أن تتعقب عمليّة تهريب كافة رؤوس الأموال وإعادتها، هذه الأموال التي “هُرّبت من البلاد بصورة غير قانونيّة”، ذلك فضلاً عن “المساعدات الماليّة والأصول التي تمّ الاستحواذ عليها بصورة غير شرعيّة في كافة المجالات، وبخاصة من قِبَل جهات سياسيّة”[4]، ذلك بُغية ملاحقتها وإعادتها إلى خزينة الحكومة. وثالثًا، يتعيّن علينا أن نرفض أيّة تدابير تقشفيّة، وأن ندفع قادة الحكومة نحو “شطب” ديوننا مع المجتمع الدولي، وأن نجد حلولاً أخرى لمساعدة لبنان في إعادة تشغيل اقتصادنا.

لبنان – إنّ آلهتنا تحترق. يدعونا سِفر إشعياء وحياة يسوع إلى التحلّي بالشجاعة، التغلب على العقبات التي نواجهها، والابتعاد عن الآلهة المخادعة التي تحترق كالخشب، والقشّ؛ تعوزنا الشجاعة “لاتِّباع” (عدد 19) الله والعمل من أجل الحقيقة البنيويّة والنزاهة الأخلاقيّة. وبفعلنا هذا، سنتمكّن من أن نشفي لبنان من الجشع، الفساد المستتر ومن العنف ونواصل العمل لتحقيق الكرم، النزاهة والسلام.


[1] Qiblawi, Tamara. “75% Of Lebanon Needs Aid after Coronavirus, and Hungry Protesters Are Back on the Streets.” CNN. Cable News Network, April 29, 2020. https://www.cnn.com/2020/04/28/middleeast/lebanon-hunger-aid-coronavirus-intl/index.html.

[2] Azhari, Timour. “Lebanon to Seek IMF Loan, Says It Needs $10bn in Aid.” News | Al Jazeera. Al Jazeera, April 30, 2020. https://www.aljazeera.com/ajimpact/lebanon-seek-imf-loan-10bn-aid-200430182046291.html.

[3] Hubbard, Ben. “Economic Crisis Looms as Protests Rage in Lebanon.” The New York Times. The New York Times, November 15, 2019. https://www.nytimes.com/2019/11/15/world/middleeast/lebanon-protests-economy.html.

[4] Azhari, Timour. “Lebanon to Seek IMF Loan, Says It Needs $10bn in Aid.” News | Al Jazeera. Al Jazeera, April 30, 2020. https://www.aljazeera.com/ajimpact/lebanon-seek-imf-loan-10bn-aid-200430182046291.html.

اترك رد