بقلم إيلي حدّاد
تُرغمنا جائحة “كوفيد 19” على إعادة التفكير بعدّة أمور في حياتنا لطالما اعتبرناها من المقدّسات. فنحن في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، ونظرًا لدورنا في التّعليم اللاهوتي وتشكيل القادة، نتساءل عن جوهر التّعليم والتّشكيل، وبخاصّة لهدف الخدمة الفعّالة في منطقتنا. علينا أنْ نعيد التّفكير في مناهجنا ووسائلنا التعليمية والعديد من الأمور التي نتمسّك بها لكونها عزيزة عندنا. ولكنْ ماذا عن الكنيسة المحليّة؟ هل ينبغي التّشكيك في فهمنا التّقليدي للكنيسة المحليّة وخدمتها؟ وهل يُسمَح لنا القيام بذلك؟ أرجو منكم التحلّي بالصّبر أثناء قراءة تأمّلاتي، فهي نابعة من شغفي العميق لكنيسة اللّه.
ما لا شكّ فيه أنّ رؤيتنا للكنيسة المحليّة تتغيّر حاليًّا في أذهاننا، سواء اعترفنا بذلك أم لا. بالنّسبة للكثيرين، وذلك قبل الجائحة، كان جوهر الكنيسة المحليّة يتمحوّر حول المبنى حيث كان شعب اللّه يجتمع وحيث جرت معظم البرامج الكنسيّة. أمّا خلال الجائحة، ونتيجةً لعمليّات الإغلاق وإجراءات الوقاية والحجر، أصبحت مباني الكنائس بعيدة المنال. وبالنّسبة للكثيرين، انتقل مركز الكنيسة إلى منصّات وسائل التّواصل الاجتماعي. إذا كانت الكنيسة تبثّ خدماتها عبر الانترنت، فالكنيسة تقوم بدورها. وبالطّبع، استمرّ العديد من المؤمنين في إيجاد سُبل تُمَكِّنهم من العمل الإرسالي ليخدموا مجتمعاتهم. إذًا، ما الذي يُحدِّد ماهيّة الكنيسة المحليّة؟
عشتُ في كندا لمدّة خمسةَ عشرَ عامًا، حيث كنتُ وزوجتي عضوَين ناشطَين في كنيسة محليّة ناطقة باللّغة العربيّة. خَدَمْنا مع هذه الكنيسة منذ بداياتها، وتولّينا خدمات متعدّدة فيها. كانت عائلة الكنيسة الأغلى على قلوبنا، بينما كنّا نعيش متغرّبين عن وطننا الأمّ. عُدْنا إلى لبنان قبل خمسةَ عشرَ عامًا وانتمينا إلى كنيسة محليّة هنا والتي باتت عائلتنا منذ ذلك الحين. إذًا، أيٌّ منهما هي كنيستنا المحليّة اليوم؟ جغرافيًّا، نحن مرتبطان أكثر بالكنيسة في لبنان. أمّا عاطفيًّا، فكِلا الكنيستَيْن شكّلتا حياتنا وخدمتنا. ومن ناحية إرساليّة، نشعر أنّ خدمتنا هي امتداد للكنيستين. فعائلتنا الكنسيّة في كندا لا تزال تدعمنا، تصلّي من أجلنا، تشجّعنا، والعديد منهم يزوروننا. وبسبب الجائحة، ونتيجةً لإغلاق الكنائس، ومع انتقال خدمة الكنيسة لمنصّات عبر الانترنت، بات باستطاعتنا الآن الانضمام إلى الرّعيتين لنتشارك معهما اختباراتهما إلى حدّ ما. لذا، أيّ واحدة منهما ينبغي اعتبارها كنيستنا المحليّة اليوم؟
أضف إلى ذلك، فإنّني جزءٌ من مجتمع رائع من المؤمنين المفديّين في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، ونحن متّحدون في إرساليّتنا لخدمة اللّه من خلال خدمة الكنيسة بإعداد القادة وتوفير الموارد التعليميّة. أقضي وقتًا مع عائلتي في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة أكثر بكثير من عائلتي في الكنيسة المحليّة. نعبُد معًا يوميًّا، نمضي وقت شركةً معًا، نتهيأ ونخدم معًا. وفي نواحٍ عدّة، نحن نشبه جسد المسيح أكثر من أيّ كنيسة محليّة. نحن لا نُعمِّد ناسًا، ولا نرسم قساوسة، رغم أنّ قادتنا ليسوا أقلّ تكريسَا للخدمة من قادة الرعايا الكنسية. كما أنّنا لا نمارس كسر الخبز معًا بانتظام، وإنّما فقط في مناسبات خاصّة. نحن جزء أساسي من الكنيسة، ولكنْ هل نحن مؤهّلون لكي نكون كنيسة محليّة؟ وما الذي قد يؤهّلنا؟ هل يجب أن نبدأ بممارسة المعموديّة وكسر الخبز؟
بحكم عملي في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، أعيش بالقرب من مبنى الكليّة. وهذا هو حال آخرين كُثر أيضًا ممن يعملون في الكليّة أو ممن ينتمون للمجتمع الإنجيلي والمجتمع الإرسالي في لبنان. أقطن في قوقعة شبه مسيحيّة إلى حدّ كبير. ينهض كلّ واحدٍ منّا صبيحة يوم الأحد، وذلك قبل الجائحة، ويتوجّه إلى كنيسة مختلفة في المدينة، بعضها قريب والبعض الآخر أبعد. فما الذي يجعل من الكنيسة المحليّة، محليّة؟ كيف أختار مجتمع الكنيسة التي أريد الانتماء إليها؟ هل هي إرساليّتها وكيف يمكنني أنْ أكون جزءًا منها؟ هل هو التّعليم والوعظ؟ هل هي العقيدة؟ هل هو المبنى؟ هل بسبب الرّاعي أم القادة الآخرين؟ أم هي الطائفة التي أنتمي إليها؟ هل من الوارد أنّنا قد تبنّينا ذهنيّة استهلاكيّة – إذ أنّ الكنائس المحليّة المتنوعة تُقدِّم شتّى أنواع السّلع والخدمات، ونحن نختار السّلع والخدمات التي تلائمنا؟ وماذا يحدث مع تأديب الكنيسة ضمن هذا الإطار؟ إذا قام أحد قادة الكنيسة المحليّة بتصحيح موقف أتخذه أو توبيخ سلوكٍ خاطئ أقدمت عليه، هل كلّ ما عليّ فعله هو عبور الشّارع والانضمام إلى كنيسة محليّة أخرى لا تُزعجها مواقفي وسلوكيّاتي؟ هل هذا هو هدف تصميم اللّه للكنيسة؟
مكثْتُ لبضعة أيّامٍ مع زوجٍ محترفَين يكبرانني سنًّا أثناء زيارتي سيدني منذ بضع سنوات. لقد تجوّلا في كافة أنحاء أستراليا طوال حياتهما المهنيّة. كان مبدأهما، أينما وحيثما يذهبان، يبحثان عن رعيّة كنسيّة تؤمن بالكتاب المقدّس وتكون الأقرب إلى منزلهما. لم يبحثا عن الانتماء الطّائفي، أو عن حجم الجماعة، أو عن علامات “النّجاح” التّقليديّة. لقد توصّلا إلى قناعة أنّ لكلّ جماعة نجاحاتها وإخفاقاتها، نقاط قوّتها ونقاط ضعفها. لقد قرّرا أنْ يُصبحا جزءًا من الجماعة التي تخدم مجتمعهما، بغض النّظر عن مدى تقدّم تلك الجماعة في مسيرتها مع اللّه. هل يمكن لهذا أنْ يكون أفضل المعايير للانضمام إلى تعبير محلّي لكنيسة اللّه؟
لا يُعَرِّف الكتاب المقدّس صراحةً الكنيسة المحليّة، وإنّما ثمة مناقشات كثيرة حولها في الأدب المسيحي. يُحاول الدارسون واللاهوتيّون التّمييز بين الكنيسة المنظورة وغير المنظورة، وبين الكنيسة العالميّة والمحليّة. هذه الفروقات ليست دائمًا واضحة ومُباشرة. غير أنّ الكتاب المقدّس غني بالمبادئ والخصائص التي تحدّد المجموعة المحليّة العاملة بفعاليّة.
أفهم أنّ الكنيسة المحليّة هي مجموعة من الناس المفديّين المنخرطين في إرساليّة اللّه في العالم. وهذا يُعَبَّر عنه في اجتماع الكنيسة للعبادة، والشّرِكَة، والإعداد، والانخراط في الإرساليّة معًا كجماعة، ومن خلال الإرسال إلى العالَم لخدمة اللّه والقريب نيابةً عن الكنيسة.
إحدى السّمات الرّئيسة لجسد المسيح هي الوحدة. فنحن نجد أنفسنا في عصر من التّعابير المتعدّدة للجسد المحلّي والتي تتميّز عن بعضها في كثير من الأحيان بالسّياسات الطائفيّة، القيادة والنّفوذ، وأنماط العبادة وأشكالها المختلفة، ووجهات النّظر المتنوّعة حول العقيدة. فبالنسبة للعالَم الخارجي الذي يراقب الكنيسة، هل يرى في هذا النّسيج الكنسي علامةً للوحدة أو للانقسام؟ وأنا لا أدعو إلى التطابق من خلال دعوتي للوحدة، ولكنْ هل تُقدِّم تلك الكنائس بطريقةٍ ما المساءلة والدّعم لبعضها البعض؟ أم أنّ كلّ كنيسة تُمثِّل جسدًا مستقلًّا يعمل بمفرده؟ هل ينظر إلينا العالَم الخارجي كجسد واحد أم عدّة أجساد مفكّكة في صراع وتنافُس مع بعضها البعض؟
ليست الطائفيّة شيئًا أنشأناه في حياتنا، وإنّما ورثناه. الطوائف هي هياكل من صنع البشر. إلى أيّ مدى ينبغي أنْ تُشَكِّل حياتنا وخدمتنا الكنسيّة؟ إنّني أجد قيمةً في الطّوائف عندما تكون مصدرًا للوحدة. ومن المشجّع جدًّا أنْ نعرف أنّنا ننتمي إلى مجموعة أكبر من المؤمنين. فعندما نتألّم، يتألَّمُ آخرون معنا، وعندما نحتفل، يحتفل آخرون معنا. أجد أيضًا قيمةً في المساءلة التي يمكن أنْ توفّرها تلك التنظيمات الكنيسة. قد نناقش قيمة الهرميّة الكنسيّة، ولكنْ لا نقاش حول حاجتنا إلى نوعٍ من أنواع المساءلة. من ناحيةٍ أخرى، إنّ ما يقلقني في الطّائفيّة، تحوُّلها إلى مصدرٍ للانقسام. برأيي، من الممكن أنْ يكون هناك حدودًا طائفيّة لتشجيع الناس على العمل سويًّا، ولكن ليس كوسيلة للاستبعاد، وإبقاء الذين لا يُشبهوننا خارجًا.
أعلم أنّ هذا الموضوع لا يمكن معالجته في منشور واحد في مدوّنة. ثمة العديد من القضايا المتداخلة هنا. وهذه ليست سوى بعض التأمّلات الشّخصيّة. ولكن، بالنّظر إلى كيفيّة تعطُّل كلّ شيء في زمن الجائحة، وأنّنا مدفوعون إلى إعادة التفكير في العديد من الأمور التي اعتدنا على الاعتزاز بها، فمن المفيد بالنّسبة لنا مناقشة كيفيّة إيجاد طرق أفضل لنختبر الحياة الجماعيّة معًا خارج نطاق حدودنا التّقليديّة.