نظرًا لأنّ مقاعد الكنائس في جميع أنحاء العالَم لا تزال شاغرة إلى حدٍّ كبير وذلك للتّخفيف من المخاطر الصحيّة لـ – كوفيد 19، ثمّة أسئلة عميقة تُطْرَح حول طبيعة الكنيسة. فالاجتماعات الافتراضيّة تقدّم للعديد من الرعايا الكنسيّة وسائل قيِّمة للمُشاركة مع بعضهم البعض، لكنّ التّباعد الجسدي لفترات طويلة يُثْبِت أنّه محنة شاقّة ومُربكة للمجتمعات الدينيّة. إنّ عام 2020 هو عامٌ غير مسبوق. لقد أوجد هذا العام لحظات يأس هائل وتنوير نافع على حدٍّ سواء، لا سيّما للمسيحيّين الذ يواجهون تحدّي إعادة التّفكير في فهمهم للكنيسة وتعبيراتها.
إنّ تأثير الجائحة على الكنيسة في الشّرق الأوسط لهو تأثير كبير حيث لِدُور العبادة معنى خاصّ في تشكيل الهُويّة وتعزيز التعبيرات الإيمانيّة. وعلى الرّغم من أنّ الأزمات الكبرى ليست جديدة على المنطقة، فالقوانين الصّارمة للتّباعد القسري تُمَثِّل نموذجًا جديدًا من الأزمات. ومع ذلك، فإنّ هذه التّجربة تُثبت أنّها استنارة كنسيّة جديدة حيث ابتعد المسيحيّون عن مباني الكنائس للخروج إلى مساحات جديدة. استكشاف مفهوم الكنيسة والمكان هو محور المحادثة التي جرت بين نبيل حبيبي، آرا بداليان، باسم ملكي، وشادي فاتحي خلال النّدوة الثالثة ضمن سلسلة محادثات الشّرق الأوسط في 20 آب/ أغسطس من العام 2020: الكنيسة بلا مكان أو في كلّ مكان؟ انعكاسات الأزمنة الاستثنائيّة كواقع جديد للكنيسة المحليّة.
شاهد فيديو الندوة عبر الإنترنت المتوفر على قناة كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة على يوتيوب
ملخّص النّدوة
افتتح نبيل حبيبي، وهو عضو في هيئة التّدريس في كليّة اللاهوت المعمدانية العربية الندوة بمحاضرة رئيسة اقترح فيها سُبلًا لفهم الكنيسة وأزمة المكان. لقد قدّم طرحًا مفاده أنّ الاستجابات الهادفة إلى التّقليل من شأن ميزات الكنيسة الماديّة والتركيز على عناصرها غير الماديّة تفشل في استيعاب الديناميكيّات الأساسيّة حول التّجربة الإنسانيّة وتواصله مع اللّه، والعالَم، وبعضنا البعض. لا شكّ أنّ الأماكن مهمّة، والأُطر المفاهيميّة تساعدنا على إدراك أهميّة المكان في مختلف مجالات الحياة بما في ذلك المجال الكنسي. قدّم نبيل ثلاث طرق للنظر إلى المكان من منظور كتابي: المكان الموضوعي مقابل المكان الذّاتي، المكان المقدّس مقابل مكان العبادة، المكان الرّسمي مقابل المكان الاعتراضي. جادل بالقول أنّ الاعتراف بالكنيسة كمكان ذاتيّ إنّما هو إقرار حقيقي بكيفيّة امتلاك الأماكن معنىً شخصيًّا. إنّها السّياقات التي تُعاش فيها الحياة؛ فالعلاقة التي يختبرها الناس مع أماكنهم ليست سطحيّة. وعلى هذا النّحو، فإنّ عدم الوصول إلى مباني الكنائس هو أمر محزن بالنّسبة للمسيحيّين. وتابع محاضرته من خلال عرض المكان المقدّس كموضوع كتابيّ متجذّر في العهد القديم، ولا سيّما في الهيكل باعتباره محلّ سكنى الله. واقترح نبيل هنا أنّ قراءة العهد الجديد تُغَيِّر المشهد إلى حدٍّ كبير مع تجسُّد المسيح الذي يُعْلِن عن مكان عبادة غير محدود يمتدّ إلى أيّ مكان وفي كلّ مكان. في المسيح، لا يؤدّي فقدان الأماكن التي تبدو مقدّسة إلى إعاقة فرص اللّقاء مع اللّه من خلال العبادة. أخيرًا، قدّم مفهوم المكان الاعتراضي على أنّه مكان ثالث على الهامش، أيّ نوع من “ساحة المعركة” حيث يحدث الصراع مع الاضطهاد. غالبًا ما تواجه المجتمعات المسيحيّة في سياق الشّرق الأوسط أعمالًا عدائيّة وتتطلّب ممارسة الإيمان المسيحي بأمانة الدخول إلى مكان ثالث، الأمر الذي يعكس اختبار الكنيسة الأولى بوجودها في بيئات غير مرحّب بها. من نواحٍ عديدة، تُرْغِم الجائحة الكنائس في جميع أنحاء العالَم على استكشاف أماكن جديدة واكتشاف الفرص لتعظيم ربوبية المسيح إلى ما بعد حدود المواقع المُشَيَّدة الآمنة. في الختام، لفت نبيل النظر إلى التجارب الكتابيّة لشعب اللّه في الأماكن البابليّة والرومانيّة. نرى هنا الدّليل على اليأس الذي لا يرتبط بمكان وكذلك الاحتفال بسلطان الملكوت في جميع أركان المسكونة على حدٍّ سواء. فالكنيسة تعيش، سواء بأماكن جديدة أو بعدمها.
قدّم آرا بداليان، وهو راعي الكنيسة المعمدانيّة في بغداد، حالة دراسية من السّياق العراقي. وأوضح أنّ الكنائس في العراق واجهَتِ الأزمات منذ فترة طويلة وقد طوَّر مجتمعه مجموعة من الخدمات الرّوحية والعمليّة في بغداد. شكَّلَ التوقُّف المفاجئ للأنشطة في آذار/ مارس تحدِّيًا كبيرًا لهذه الخدمات. وقد تمكّنوا مع مرور الوقت من تعديل اجتماعاتهم وأنشطتهم لاستيعاب الواقع الوبائي، واكتشفوا بذلك مجالات جديدة للكنيسة للوصول إلى الآخرين والشّهادة للمسيح. غير أنّ آرا أوضح أنّ العراق مجتمع تقليدي وموجّه للغاية حيث تُشَكِّل مباني الكنيسة جزءًا مهمًّا من الهُويّة المسيحيّة. يُنْظَر إلى بُنية الكنيسة على نطاق واسع على أنّها مكان مقدّس، لكنّ تجربة الجائحة تكشف عن رؤى جديدة حول دور الكنيسة وتفتح الباب أمام مزيد من الفرص لمشاركة رسالة المسيح.
تحدّث باسم ملكي، في حالة دراسيّة ثانية عن كنيسة اللّه في بيروت. ومن المثير للاهتمام، إشارته إلى أنّ الإغلاق القسري للكنائس نتج عنه بعض الفوائد المباشرة، كَجَعل الكنيسة في متناول الأفراد الذين يعيشون خارج بيروت وكذلك لأولئك الذين يعلقون في زحمة السّير الخانقة. شارك باسم كيف أنّ الانتقال الكامل إلى الأنماط الافتراضيّة قد ساعد المؤمنين الجدد على المشاركة في الاجتماعات، وشجّع الناس على الاستفادة من المواهب بأساليب جديدة، وسمح بأساليب تواصل جديدة. غير أنّ التحدّيات كبيرة. وذكر أنّ التحدّي الأكبر خلال الجائحة لا يكمن في الحفاظ على الأنشطة وإنّما الحفاظ على علاقات متينة وسليمة. الناس معزولون، وحتّى أنّ الأنشطة البسيطة، مثل زيارة بعضهم البعض وارتشاف القهوة معًا قد توقّفت كليًّا. تشمل التحدّيات الأخرى الظهور المستجدّ عبر الإنترنت نظرًا لأنّ العديد من الكنائس اعتادت البقاء “مستترة”. لا شكّ أنّ الجائحة هي اختبار فعّال للكنيسة، وقد كان هذا الاختبار مثمرًا.
قدّمت شادي فاتحي من مركز بارس اللاهوتي تأملًا عالميًا ثاقبًا للمحادثة من خلال التركيز على السياق الإيراني. أوضحت أنّ حملات القمع الحكوميّة أجبرت الكنائس على التحرّك تحت الأرض وقد استمدّ المؤمنون المساعدة من لاهوت المكان ولاهوت الجسد للتغلّب على التحدّيات اليوميّة للكنيسة والمكان. يوفِّر مفهوم المكان معنى محوريًا للتّجربة الإنسانيّة؛ وتجاهُل المكان في الفكر الحديث أمر مثير للقلق. بالنّسبة للكنيسة المُضْطَهَدة، فقد ساعَدَتِ النّظرة الكتابيّة للمكان الإيرانيّين على زيادة الأماكن المتوفّرة لديهم، كالمنازل، من أجل الاستمتاع بالعبادة والشَّرِكَة. وناقشت شادي كيف أنّ لاهوت الجسد يعطي معنى للأبعاد الماديّة للكنيسة من خلال تعميق المشاركة المُتَجَسّدة للعبادة، والشَّرِكَة، والتّشكيل الإرسالي. إنّ تبنّي لاهوت المكان ولاهوت الجسد يعني أنّ ثمّة تردُّد في نقل الكنيسة على المدى الطّويل إلى الأنماط الافتراضيّة. تُذكّرنا أفكارها أنّ مجتمع الكنيسة المتنامي في إيران لديه الكثير ليقدّمه للكنيسة العالميّة خلال تجربة الجائحة هذه.
اختتمت النّدوة بحلقة نقاشيّة استكشفت جوانب أخرى من الكنيسة أثناء جائحة كوفيد-19. تناول المشتركون موضوع العشاء الربّاني وقدّموا أسبابًا مختلفة عن سبب اشتراكهم به في كنائسهم أو عدم المشاركة. استكشفت المحادثة أيضًا المناهج المختلفة التي تتّبعها الكنائس خلال الجائحة بالإضافة إلى أسئلة حول ما إذا كانت الوقائع الراهنة في العالَم تقود الكنائس إلى نموذج الكنيسة الأولى، وما هي القضايا المتعلقة بتنمية هذا النموذج. ذكّرتنا النّدوة لماذا ينبغي أنْ نتشجّع بالطريقة التي يعمل بها اللّه من خلال الكنائس وكيف يمكننا دعم جسد المسيح بالصّلاة خلال هذا الوقت الصّعب.
تسعى الندوة عبر الإنترنت لمحادثات الشرق الأوسط لعام 2020 إلى طرح الأسئلة والنظر في الأفكار بغية الاعتراف بالتحدّيات وتحديد الفرص المتاحة للشهادة المسيحيّة الأمينة. شاهِد الندوة عبر الإنترنت وتابِع المحادثة التي يسّرها نبيل وآرا و باسم وشادي، واستمِرّ في المناقشة من خلال مشاركة الأسئلة والأفكار في قسم التعليقات أدناه.