مع تفشى وباء كورونا المستجد في لبنان في شباط/ فبراير 2020 ووصول البلاد إلى طريق مسدود تقريبًا، واجه فريق معهد دراسات الشرق الأوسط تحدّيًا لإعادة التّفكير في مبادراته لبناء السّلام في ضوء واقع التّباعد الاجتماعي الجديدة. شكّل هذا الأمر صعوبة بالنّسبة للبرامج المبنيّة على تيسير المشاركة ما بين الناس. نَمَتْ إحدى المبادرات، وهي شبكة الصداقة بين روّاد الكنائس والمساجد على مدى السّنوات القليلة الماضية إلى شبكة وطنيّة من القادة الرّوحيّين من مختلف المعتقدات السنيّة والشيعيّة والأرثوذكسيّة والمارونيّة والانجيليّة والدّرزيّة. وقد تقرّر الاستفادة من هذه الرّوابط لجلب رسالة رجاء ووحدة للشعب اللبناني من خلال إنتاج شريط فيديو يُظهر العديد من هؤلاء القادة يشاركون في الصلاة للّه والتشفع من أجل لبنان خلال هذه الفترة الصّعبة.
نظرًا لأنّ لبنان ليس في خضمّ أزمة واحدة فحسب، بل أزمات متعدّدة، فنحن نعتقد أنّ الإيمان يجب أنْ يلهمنا للوصول إلى الآخرين من أجل “التّركيز على تلك الأمور التي تجمعنا معًا”، كما هو موضح في مقدّمة الفيديو. إنّ تَجَمُّع الصّلاة هو دعوة للجميع للتعرّف على بعضهم البعض، ومشاركة مصدر رجائنا، والعمل من أجل مستقبل مفدي. يلهمنا اللّه في أرض الانقسام وخلال فترة التّباعد أنْ ندعو الآخرين بروح الصلاة ليقتربوا من بعضهم البعض ويطلبوا النّعمة والرّحمة التي يحتاجها هذا العالَم بشدّة.
بعد هذا التّصريح، لا يمكن لمقطع فيديو مدّته أربع دقائق والمقصود منه جلب الرّجاء في خضمّ أزمة لبنان غير المسبوقة، الخوض في كامل تعقيدات بناء السّلام بين الأديان. قد يبدو غريبًا للبعض أنّنا نتجاهل الاختلافات الكبيرة الموجودة بيننا والصّلاة معًا في هذا الفيديو. قد يعتقد المرء أنّ المغامرة في هذه المجالات التي قد تكون مكتظة بالمفاهيم الخاطئة لهو أمر أكثر خطورةً من وأقل ثمرًا من الشهادة المسيحية الأمينة. في نهاية المطاف، يُمكن تجنُّب قدر كبير من الجدل والخلاف اللّاهوتي إذا تمسّكنا بالعزلة الدينيّة بدلًا من محاولة المشاركة بين الأديان. غير أنّ اعتناقنا الشامل للإنجيل يرغمنا على قبول المخاطرة من أجل زرع البذور ورعاية الأسس التي يُمكن أنْ تُعزّز الخير العام لجيراننا وأنفسنا.
وفيما لَقِيَ فيديو الصّلاة استحسانًا بوجه عام، أعرب بعض أصدقائنا في المنطقة عن قلقهم إزاء المبادرة. ويمكن تلخيص الاعتراضات من خلال ردَّيِ الفعل التّاليَيْن: “نحن لا نصلّي مع عبدة آلهة باطلة”، و”هذا يؤدّي إلى دين العالم الواحد”. نتفهّم ردود الأفعال هذه، ومنذ بضع سنوات، ربّما كان هذا ردّ فعل بضعة منّا في معهد دراسات الشّرق الأوسط.
تُشير ردود الفعل إلى سؤالَين لاهوتيَّيْن مهمَّيْن يتعلّقان بمضمون فيديو الصّلاة:
هل هو تأكيد على عبادة إله باطل؟
هل هذه مساومة تدعو إلى التّوفيق بين معتقدات إيمانية متباينة؟
يتطلّب كِلا السّؤالَين أكثر من إجابة بسيطة تتلخّص بنعم أو لا.
لا إله إلّا الرّب – لا إله إلّا الله
يبدأ فيديو الصّلاة بمقدّمة من مرتان عقّاد، مدير معهد دراسات الشّرق الأوسط، يصف فيها رجال الدين المسيحيّين والمسلمين وهم يرفعون صلواتهم إلى ” إله السماء الواحد”. ثمّ يشرع القادة الرّوحيّون من شبكة الصّداقة في توجيه صلواتهم إلى “إله السّماء”، مستخدمين كلمات مثل “ربّ”، “إله”، “اللّه”. يستخدم قادة الدّيانتين المسيحيّة والمسلمة المصطلحات الثلاثة نفسها؛ لم يتمّ إدخال أيّ مصطلحات خارجيّة لأيّ تقليد.
قد يكون المصطلح الأخير مثيرًا للجدل بالنّسبة للبعض مِمَّن ليسوا على دراية بالسياق العربي، حيث غالبًا ما يوصف اللّه بأنّه “إله الإسلام”. وللأسف، يعكس هذا الأمر سوء فهم شائع. وكما شهد الأدب والليتورجيا اليهوديّة والمسيحيّة في العالَم النّاطق بالعربيّة بأغلبيّة ساحقة، فقد استخدمَ المجتمعان ” كلمة اللّه” للإشارة إلى إله إبراهيم، وموسى، ويسوع منذ فترة طويلة قبل زمن الإسلام. النّظريات التي تنسب الإسم إلى إله وثني غير مقنعة. لغويًّا، إنّ الجَمع بين الحرف الأوّل (الحرف أ) والحرف الثاني (الحرف ل) في الإسم من خلال “تضخيم” الصّوت باللّسان لا يحدث أبدًا في اللّغة العربيّة. يحدث هذا الصّوت فقط كنتيجة لحرفَين حَلقيَّين متتاليَيْن واللام ليست حرفًا حَلقيًّا. لا يُمكن العثور على كلمة “اللّه” التي تُلفظ دائمًا بصوت التّعريض في أيّ كلمة أخرى في اللّغة العربيّة، إلّا عندما تأتي بعد كلمة تنتهي بكسرة (نهاية الحالة المُضافة). هذا مؤشِّر قوي أنّ كلمة “اللّه” هي كلمة أجنبيّة تمّ تبنّيها في اللّغة العربيّة. من ناحية أخرى، وفي اللّغة الآراميّة، يتمّ دائمًا نطق كلمة “Alaha”، وهو الإسم الشائع للّه، بهذه الطّريقة. وكما تشهد النّسخ الآراميّة والسّريانيّة من الأناجيل، فقد استخدم يسوع كلمة “Alaha” للإشارة إلى أبيه السّماوي. النّقطة الأولى التي ينبغي ملاحظتها هي أنّ اليهود والمسيحيّين والمسلمين الناطقين بالعربيّة مُتّفقون على مصطلحات الله.
بالطّبع، يختلف المسيحيّون والمسلمون إلى حدٍّ كبير في فهمهم للإله الواحد، كما هو الحال في التّفكير بالثالوث وطبيعة المسيح بالإضافة إلى مفهوم الخلاص. غير أنّ المسيحيين واليهود يختلفون أيضًا حيال هذه القضايا وليس ثمّة نقاش يُذكَر عمّا إذا كان إله المسيحيّة واليهوديّة واحدًا أم لا. في الوقت عينه، يتّفق المسيحيّون والمسلمون (واليهود) على أنّ هناك إلهًا واحدًا فقط خلق كلّ شيء، وهو مُختلف تمامًا عن خليقته، وهو صالحٌ، ويأمرنا أنْ نحبّه بكلّ كياننا، وأنْ نحبّ قريبنا كنفسنا. يقول ميروسلاف فولف في كتابه “الله”: الاستجابة المسيحيّة أنّ هذا سبب كافٍ تؤكّد أنّ المسيحيّين والمسلمين يعبدون اللّه نفسه حقًّا. [1]
علاوة على ذلك، إذا أخذنا مثال يسوع وبولس وتعاملاتهما مع سياقات من أديان مختلفة، فإنّنا لا نرى يسوع في محادثته مع المرأة السّامريّة على البئر ولا بولس في خطابه الموجّه لليونانيّين في أثينا حاولا توبيخ محاوريهم بعبادة إله باطل. بل أشار كلاهما أنّهما يريدان تقديم إعلان أسمى عن الإله الواحد الذي كانوا يؤمنون أنّهم يعبدونه.
أيمكننا القول إذًا أنّ المسيحيّين والمسلمين في هذا الفيديو يصلّون للإله نفسه؟ ما يمكننا تأكيده فعلًا هو أنّ أذهانهم، بينما يصلّون، تنصبّ على إله إبراهيم وموسى ويسوع. هل يعني ذلك أنّهم يفهمون اللّه بالطريقة عينها؟ ثمّة بالفعل اختلافات في الطريقة التي يفهم بها مسيحيّان اللّه وهما يصلّيان له. فكم بالحري بين المسيحيّين واليهود والمسلمين، حيث لا يحضر المسيح كتعبير كامل عن اللّه في أذهان اليهود والمسلمين وهم يخاطبون إله السّماء؟ لا ينبغي التّظاهر بأنّ هذا الأمر ليس مهمًّا. وهذا يقودنا إلى السؤال اللّاهوتي الثاني الذي نحتاج إلى معالجته.
هل نحن من مناصري التّوفيق بين المعتقدات، أم أقلّه المساومة على إيماننا؟
حتّى لو سلّمنا أنّ المسيحيّين والمسلمين يعبدون الإله نفسه، ألا يتجاهل الفيديو عن قصد الاختلافات المهمّة الموجودة في فهم اللّه بين المسيحيّين والمسلمين (واليهود)، وبالتّالي تعزيز فهم توفيقي لإيمانهم؟ في الواقع، نحن نتجاهل هذه الاختلافات المهمّة في الفيديو عن قصد، وإنّما ليس بغرض التّوفيق بين المعتقدات أو المساومة.
بعامّةِ إنّ نوع بناء السّلام الذي نناصره في معهد دراسات الشّرق الأوسط ونحاول تطبيقه في مبادراتنا، ليس المكان الذي تتحقّق فيه من إيمانك، ولا ندّعي بأنّ إيماننا واحد، ولا نغنّي اللّحن نفسه بغية المساومة. نحن نعتقد أنّ الحوار الحقيقي بين الأديان لا يمكن تحقيقه إلّا عندما يأتي النّاس بصدق واضعين التزاماتهم الدينيّة كاملةً على الطّاولة. الإسلام والمسيحيّة ديانتان تبشيريّتان ولا حاجة إلى التّظاهر بخلاف ذلك من أجل الانخراط في الحوار وبناء السّلام. أقلّه هذا هو إيماننا وخبرتنا بعد سنوات عديدة من بناء السّلام في لبنان.
ومع ذلك، كما أشرنا آنفًا، لا يمكن لمقطع فيديو مدّته أربع دقائق تمّ إنتاجه في خضمّ أزمات متعدّدة معالجة التّعقيد الكامل لبناء السّلام بين الأديان. هذا هو السّبب وراء تجاهلنا للاختلافات المهمّة الموجودة بيننا.
هذا هو الوقت المناسب للوقوف معًا على أرضيّتنا المُشتركَة كمسيحيّين ومسلمين. غدًا – واليوم – نحن نواصل مناقشاتنا حول ما نختلف عليه وسبب اختلافنا.
[1] فولف، ميروسلاف. اللّه: استجابة مسيحية. هاربر وان، 2011.