بقلم وليد زيلع
احتفل لبنان الأحد المنصرم بعيد الاستقلال. مرّ عامٌ والأمل شبه مفقود. فالثّورة التي أتمّت عامها الأوّل وحَّدَتْ، للمرّة الأولى، أحلام اللّبنانيّين في وجه النّخبة الحاكمة الفاسدة، وها هي تضمحل ويتلاشى معها الأمل في قيام لبنان حقيقي ومستقل. هذا الوضع الذي يبدو ميؤوسًا منه يدفع العديد من الشباب إلى الهجرة ويقود العديد من المهنيّين والمحترفين لبدء حياة مهنية جديدة في أرجاء مختلفة من العالَم. غير أنّنا نعتقد أنّ هذا الوضع ليس عائقًا لنا كمسيحيّين لأنّه لنا رجاء أكبر ومعه وطن أكبر مُعَدّ لنا في السّماء. كيف يمكن لأتباع المسيح الحفاظ على محبّة اللّه ومحبّة الوطن على حدٍّ سواء، هو السؤال الذي سأحاول الإجابة عليه باستخدام مفهوم لاهوتي للمكان المادّي.
لقد عشت ولفترةٍ طويلة، صراع الانقسام الثنائي بين ما هو فوق في السّماء وما هو هنا على الأرض. ويعود السبب في ذلك إلى قراءتي الحرفيّة وخارج السّياق لبعض النّصوص الكتابيّة مثل كولوسي 3: 2 “اهتمّوا بما فوق لا بما على الأرض…” و2بطرس 3: 10 “… وتنحلّ العناصر مُحترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها...” لقد أسكتت في داخلي أيّ إحساس بالانتماء إلى وطن واستبدلته بالشّغف الشديد لليوم الذي سأكون فيه في منزلي السّماوي الحقيقي عندما أموت. فمن النّاحية التّاريخية، لقد خلقَتْ هذه النّظرة الثّنائيّة الصّراع المستمرّ بين الجانب الجسدي (المادي/ المكاني) والجانب الرّوحي (غير المرئي/ الذي لا يُمَسّ) في حياة البشر، دون تدخُّل تصحيحي وفاصل من اللاهوت أو العقيدة. حتّى يومنا هذا، تشير اللّغة التي نستخدمها أحيانًا في دوائرنا الإنجيليّة، سواء عن قصد أم بغير قصد، إلى هذا الانقسام من خلال تصنيف ما هو روحي وغير مرئي بأنّه أسمى بكثير ممّا هو مادّي. كلمات وعبارات مثل مؤمن مقابل غير مؤمن؛ مخلَّص مقابل هالك؛ مواطن في أورشليم الجديدة مقابل مواطن في العالَم الأرضي وجميعها تُشير إلى عقليّة التفوّق الرّوحي حتّى لو لم يكن هذا الأسلوب اللّغوي جليًّا دائمًا في تعليمنا ووعظنا. أنا لا أنتقد توقنا لنكون مع الرّب، وإنّما أُخاطب أسلوب الحياة الذي نحياه على الأرض، دون المساومة على صحّته.
في الآونة الأخيرة، بتت مهتمًّا بدراسة المكان، الذي اتخّذ منعطفًا دراماتيكيًّا في الدّراسات الكتابيّة. يُسمّى توطين المكان في الدّراسات الكتابيّة “علم الدراسة النّقدية للمكان”، بحيث يُنْظَر إلى المكان على أنّه مُنْتج اجتماعي بالكامل وخَلق ثقافي (نتاج علاقاتنا وروابطنا مع بعضنا البعض). لا يعني المكان المواقع الجغرافيّة فحسب، فالجغرافيا ليست سوى بُعد واحد من الاعتبارات المكانيّة. فالمكان يتحوّل إلى فهم للدّور الذي يلعبه البشر، فرديًّا أو جماعيًّا، في خلق المكان الذي يشغلونه. تنظر الدراسة النقديّة للمكان على أنّه أكثر من مجرّد ممتلكات حسيّة. تصف الرّاحلة دورين ماسّيه، التي كانت أستاذة الجغرافيا في جامعة لندن، مفهوم “المكان” في مقابلة بودكاست بقولها: “يرتبط المكان بعلاقاتنا مع بعضنا البعض، في الواقع، إنّ المكان الاجتماعي، هو نتاج علاقاتنا وروابطنا مع بعضنا. فالعولمة، على سبيل المثال، هي جغرافيا حديثة تمّ إنشاؤها من العلاقات التي تجمعنا سويًّا من مختلف أنحاء العالَم.”[1]
شارك علماء الكتاب المقدّس خلال الخمس عشرة سنة الماضية في “المنعطف المكاني” الأوسع. ماسّيه غير معروفة نسبيًّا من قبل علماء الكتاب المقدّس الذين يعتمدون بقوّة على إرث الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر وأستاذ الجغرافيا السياسيّة في عصر ما بعد الحداثة إدوارد سوجا من بعده. خلال الأشهر الستّة المنصرمة، ونتيجةً للوباء العالمي، أطلقت كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربية سلسلة من الندوات عبر الإنترنت خلال محادثاث الشّرق الأوسط 2020. ركّزت ندوة شهر آب/ أغسطس بعنوان: “الكنيسة بلا مكان أو في كلّ مكان؟ انعكاسات الأزمنة الاستثنائيّة كواقع جديد للكنيسة المحليّة”، على الصّيغة المكانيّة للكنيسة. نبيل حبيبي، المتحدّث الرّئيس وعضو هيئة التدريس في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة والباحث في العهد الجديد، استند في حديثه إلى نظريّة سوجا المكوّنة من ثلاثة أجزاء لمساعدتنا على تجاوز الفكرة البسيطة لمبنى الكنيسة (المكان المادي) “المكان الأوّل” مرورًا بالمكان الذّهني “المكان الثّاني” وصولًا إلى المكان الاجتماعي “المكان الثالث”. لا يمكننا التّفكير في “المكان” بعد الآن على أنّه حاوية فارغة من دون طبيعته العلائقيّة والغنيّة بالمعنى. فمن خلال التأكيد على الأهميّة العلائقيّة للمكان، يمكننا إدراك مكانيّة الملكوت بطريقة جديدة على أنّها حاضرة ولكنّها ليست هنا بملئها.
إنّ ملكوت اللّه ليس زمانيًّا وتاريخيًّا فحسب، بل هو مكاني وجغرافي أيضًا. إنّ وَصْف يسوع للملكوت يشمل الناس. وعادةً ما يصف سيادة الملك أو السيّد، وإنّما أيضًا المكان أو الموقع الذي يملك عليه الحاكم. إنّ فكرة السيادة ليست حاضرة فقط، بل فكرة الأرض والناس كذلك. فالمَلِك في تصوير يسوع لديه حقل، أو منزل، أو قاعة زفاف. إضافةً إلى ذلك، فالأشياء المُستخدَمة لمقارنة ملكوت اللّه تشير إلى فهم الملكوت كموقع مكاني (طريق ضيّق، بوّابة، إلخ). بالحديث عن المكان، لا أملك مساحة كافية في هذه المدوّنة لتفنيد الحجّة الكاملة للصُّوَر المجازيّة التي تصف الملكوت ككيان مكاني. لذلك، سأُقدِّم بعض الأفكار عن وجود يسوع في الجسد، والذي يقترن بحضور اللّه. لا يعني دخول الملكوت أنْ ينتقل المرء في رحلة من الأرض إلى السّماء، وإنّما قبول حُكْم اللّه في الزمان والمكان (هنا والآن).
عندما نفكّر في وجود اللّه من خلال يسوع، فإنّنا نُفكّر في καιρος (كايروس: اللّحظة المناسِبة أو الحاسمة)، والتي لها أيضًا نغمة زمنيّة وتاريخيّة. لكنّ الجسد المادّي ليسوع يُتَمِّم مرحلة جديدة من الوجود. لم يعد حضور اللّه متمركزًا حول مكانٍ محدّد بخيمة أو هيكل، بل بشخص، ما أنتج بُعدًا آخر للمكانيّة: بُعدًا علائقيًا. فيسوع بكونه شخصًا قد طوّر تلقائيًا مستويات متعدّدة من العلاقات طوال حياته وخدمته على الأرض. علاقات مع المقرّبين منه: العائلة، الأصدقاء، والتّلاميذ؛ علاقات مع الذين يبغضونه: الفرّيسيون، الكتبة، والكهنة؛ علاقات مع الذين خدمهم: جباة الضّرائب، الخطاة، المُهمّشين، الفقراء، والمَرْضى. رعى يسوع دائرة تلاميذه، وحزِن على سكّان أوروشليم؛ وأشبع المحتاجين جسديًّا وروحيًّا على حدٍّ سواء. سيظلّ صدى العلاقات التي أحدثها حضور اللّه في يسوع محسوسًا من خلال الكنيسة. إنّ البُعد العلائقي لوجود الكنيسة في سياقها المحلّي هو استمرار حضور يسوع في الجسد. فنحن نفرط في تبسيط فهمنا لحياتنا على الأرض على أنّها رحلة نقوم فيها بأعمالنا الصّالحة هنا وهناك بينما نسير نحو وجهتنا النّهائية إلى السّماء. سيُعيد هذا الاعتقاد تطوير فكرة الازدواجيّة التي وصَفْتها في بداية هذه المدوّنة.
لا ضرر أنْ تحبّ وطنك، فهو ليس مكانًا شرّيرًا أو خاليًا أو مجرّد منطقة جغرافيّة. إنّ وطنك مكانٌ غنيّ بالمعنى، والقيم، والعلاقات. ففي محبّتك لوطنك، أنتَ تدافع عن الصّواب؛ وتواجه الظّالم، وتساعد المهمّشين في التّعبير عن أنفسهم، وتمدّ يد العون للفقراء. أنتَ تتجسّد في سياقك المحلّي، من خلال محبّتك لوطنك. تمامًا كيسوع، فإنّ حضورك المتجسِّد هو التّجسيد المكاني الذي يرضى بأن يضحّي بكيانه لأجل صالِح الآخرين.
[1] https://psmag.com/news/big-ideas-in-social-science-an-interview-with-doreen-massey-on-space