بقلم وسام نصرللّه
ما زلت أتذكّر اليوم الذي لم تتمكّن فيه والدتي من العثور على الزّبدة الدنماركيّة في المتاجر السعوديّة نتيجة مقاطعة العديد من الدّول العربية والإسلاميّة للمنتجات الدنماركيّة بعد نشر عشرات الرسوم الكاريكاتوريّة للنّبي محمّد في صحيفة Jyllands – posten الدنماركيّة في أيلول/ سبتمبر من العام 2005. وفي لبنان، فقد نُهِبَتِ القنصليّة الدنماركيّة من قبل المتظاهرين الغاضبين، بينما تمّ إحراق السّفارتَين النرويجيّة والدنماركيّة في سوريا.
في الآونة الأخيرة، وبعد مرور خمس سنوات على هجمات شارلي إبدو المميتة، قُطِع رأس سامويل باتي لعرضه رسومًا كاريكاتوريّة للنبي محمّد على طلّابه خلال حصّة دراسيّة تتعلّق بحريّة التعبير. تُظهر الحملة التي تلت ذلك الحدث لمقاطعة المنتجات الفرنسيّة في الدول العربيّة إبّان رفض الرئيس إيمانويل ماكرون التّنديد بالرّسوم الكاريكاتوريّة أنّ الجراح القديمة لم تلتئم بعد. يعود تاريخ هذه الجراح إلى العام 1989، عندما أصدر آية اللّه الخميني فتوى بإعدام سلمان رشدي لنشره روايته آيات شيطانيّة.
تُبَيِّن هذه الأحداث المؤسفة أنّه ليس هناك مفهوم مُشترَك لحريّة التّعبير وإلى أيّ مدى يمكن التمادي فيها لتبقى مقبولة منطقيًا. ما هي حريّة التّعبير؟ لمَ هي مثيرة للجدل إلى هذا الحدّ؟ ما أهميّة حمايتها؟ كيف ينبغي أنْ تؤثّر على حياتنا كمسيحيّين؟
ما هي حريّة التّعبير؟
وفقًا للمادّة 19 من الإعلان العالَمي لحقوق الإنسان لعام 1948، فإنّ حريّة التعبير هي الحق “بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود.” يُضيف الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان لعام 1789، وهو جزء من الدّستور الفرنسي، أنّ التّعبير عن رأي الشّخص ينبغي “ألّا يخلّ بالنّظام العام الذي ينصّ عليه القانون” وأنّ كلّ مواطن “ينبغي أنْ يكون مسؤولًا عن مثل هذه الانتهاكات لهذه الحريّة كما حدّدها القانون.” أمّا في الولايات المتّحدة، فإنّ حريّة التّعبير محميّة بموجب التّعديل الأوّل للدستور، ولو بلغّة مُطلقة: “لا يجوز للكونغرس إقرار أيّ قانون يتعلّق بالدّين، أو يحظّر ممارسته بحريّة، أو يُقيِّد حريّة التّعبير”.
في حين أنّ المبدأ العام لحريّة التّعبير يبدو واضحًا ومُباشرًا، فقد كافح المشرّعون والمحاكم من الناحية العمليّة لتحديد ما هو ليس بالضبط تعبيرًا محميًّا. وبدرجات متفاوتة، تشمل القيود المقبولة عمومًا التّحريض على ارتكاب العنف، والتّشهير (القدح والذّم)، الفحش واستغلال الأطفال في المواد الإباحيّة. تعكس هذه القيود ما يُطْلِق عليه جون ستيوارت ميل في مقالته عن الحريّة، “مبدأ الضّرر”: ينبغي الحدّ من حريّة التّعبير التي تضرّ بالآخَرين.
لماذا هي مثيرة للجدل إلى هذا الحدّ؟
يجد العديد من المسلمين في قضيّة الرسوم الكاريكاتوريّة المتعلّقة بالنّبي محمّد أنّها رسوم مسيئة لا سيّما بالطّريقة التي يصوّرونه بها. في الواقع، يرى المسلمون أنّ الهجوم على نبيّهم، الذين يسعون للاقتداء به رافعين له الصّلوات الخمس يوميًّا، مُذلّ ومُهين ولا مبرّر له. إنّ اندفاع النّاس للدّفاع عمّا هو مقدّس لديهم لَهُوَ أمر مفهوم نظرًا لأنّه جزء هام من هُويّتهم. علاوة على ذلك، يندّد كثيرون بالرسوم الكاريكاتوريّة هذه لأنّها تُديم الصُّوَر النّمطيّة العنصريّة حول المسلمين، لا سيّما في أوروبا. بالإضافة إلى ذلك، يشعر العديد من المسلمين بوجود معيار مزدوج عندما يتعلّق الأمر بالإسلام نظرًا لعدم تحمُّل معاداة الساميّة والتسامح الواضح مع رهاب الإسلام. أخيرًا، لطاما كان هذا الموضوع أداةً للقادّة الوطنيّين الذين يفقدون زخمهم سياسيًّا أو يتطلّعون إلى تحفيز قواعدهم. كان هذا هو الحال مع آية اللّه الخميني عندما أصدر فتواه والأمر سيّان حاليًّا مع الرئيس التركي أردوغان، الذي يتطلّع إلى تنصيب نفسه على أنّه المُدافع عن الإسلام. ومن المفارقات أنّ هؤلاء القادة يبدون قلقين بشأن ما نشرته صحيفة باريسيّة غير مستساغة وغير لائقة وعلى شفير الإفلاس أكثر من قلقهم على محنة الإيغور المأساويّة في الصّين أو شعب الروهينغا في ميانمار.
في الولايات المتّحدة، أدّت الخلافات الأخيرة التي جرت في حرم الجامعات نتيجة للقيود المفروضة على حريّة التّعبير من قِبل المتحدّثين المثيرين للجدل الذين لا ينشرون حديثهم على المنصّات إلى أخذ النّقاش لأماكن لا تُحْمَد عقباها. يُسلّط لوكيانوف وهايد في مقالهما الافتتاحي The Coddling of the American Mind الضّوء على الثقافة المتنامية لمُصطلح “السّلامة” في حرم الجامعات الذي يهدف لحماية الرّفاه العاطفي للطلّاب الذين يعانون من الهشاشة المتزايدة. يتمّ ذلك بواسطة “تنظيف الحرم الجامعي من الكلمات والأفكار والموضوعات التي قد تُسَبِّب عدم الرّاحة أو الإساءة”. هذا هو شأن “الاعتداءات الدّقيقة” التي تُعْتَبَر “أفعال ثانويّة أو اختيارات للكلمات التي تبدو أنّها لا تحمل في طيّاتها نوايا خبيثة ومع ذلك يُنظر إليها على أنّها إحدى أنواع العنف”. في بعض الحالات، تخلق مثل هذه السّياسات وقائمة المحرّمات المتزايدة باستمرار ثقافة الرّقابة الذّاتيّة والخوف من “الإلغاء” على وسائل التّواصل الاجتماعي من قبل المحاكم التي يقودها الطلّاب والتي تتجاهل بدورها معايير القانون أو العدالة المعترف بها.
كما وحَظِيَ المسيحيّون بنصيبهم من الجدل القائم حول مسائل حريّة التّعبير والمُعتَقد. في فرنسا على سبيل المثال، قد تقرّ الدّولة العلمانيّة مبدأ التّسامح ولكنّها في الواقع غير مُتسامحة تجاه الآراء والمعتقدات في المجال العامّ التي تُشير إلى أيّ نوع من الأخلاق الدّينيّة. يبدو أنّ هذه النّظرة العالميّة المُهيمنة قد منحَتْ نفسها حقّ احتكار الخطاب خلف قناع الحياد على الرّغم من عدم وجود الحياد في العديد من القضايا. إنّ المعتقدات المسيحيّة مثل حصريّة الخلاص من خلال المسيح، والحاجة إلى التّوبة عن الذنوب، وقدسيّة الزّواج بين الرّجل والمرأة لا تُعْتَبَر صحيحة سياسيًّا. هل ينبغي بالتّالي إخضاعهم للرّقابة ومنعهم من دخول ساحة النّقاش العام؟
ما أهميّة حماية حريّة التّعبير؟
يصرّ الكثيرون على أنّ الخطاب الوحيد الذي يرغبون في إخضاعه هو خطاب الكراهيّة. ومع ذلك، ما هي الكراهيّة؟ كيف نُحدّدها بدقّة كيلا نقع فريسةً للمشاعر والتصوّرات الذاتيّة؟ كيف يمكن للمشرّعين تنظيم الخطاب مع عدم حظر مشاركة الأفكار الاستفزازيّة والمثيرة للجدل؟ كيف نتجنّب “طغيان الصّمت” النّاجم عن الخوف من الإساءة إلى شخصٍ ما؟ هل تُعْتَبَر الإساءة سبب كافٍ لفرض الرّقابة على الكلام؟ كيف يمكن إحراز تقدُّم إذا لم نتعرّض لآراء وأفكار مختلفة، وإذا لم يتمّ تحدّينا أو استفزازنا؟ هل ينطبق التّسامح فقط على الخطاب الذي يعجبنا؟
نوقش الجدال بشدّة في الأمم المتّحدة لسنوات عديدة حول ما إذا كان ينبغي تقييد حريّة التّعبير بهدف عدم الإساءة للمعتقدات الدينيّة. وقد صدر في العام 2011 القرار رقم 16/ 18 الذي يسمح بانتقاد الدّين لكنّه يدين التّمييز ضدّ الأشخاص على أساس دينهم. يمكن تطبيق المبدأ ذاته على قضايا أخرى تتعلّق بالأخلاق الجنسيّة أو الاجتماعيّة على سبيل المثال.
يجادل جون ستيوارت ميل في مقالته عن الحريّة بأنّ إسكات التّعبير عن الرأي يضرّ بالإنسانيّة. “إذا كان الرّأي صحيحًا، فهم محرومون من فرصة تبديل الخطأ بالحقيقة؛ وإذا كانوا مُخطئين، فهم يخسرون، وهذا ذات فائدة كبرى، أيّ الادراك الأوضح والانطباع الأكثر حيويّة للحقيقة النّاتج عن تصادمها مع الخطأ”.
غير أنّ أصحاب النظريات النقديّة مثل ريتشارد ديلجادو سيردّون بالقول إنّ كَفَّة مخيّلة الأفكار تميل لصالح الأقوياء (تركيز ملكيّة وسائل الإعلام هو أحد الأمثلة) وأنّ الأفكار الجيّدة لا تُشَوِّه بالضّرورة الأفكار السيّئة. هذا صحيح خاصّةً في مجتمع مستقطب في عصر وسائل التّواصل الاجتماعي حيث لا يتمّ استخدام حريّة التّعبير لإجراء مناقشات ومناظرات صحيّة وهادفة. يتمّ استخدام حريّة التّعبير، في كثير من الأحيان كستار دخاني للعنصريّة والتحيُّز غير المُقيّد وتشويه سمعة الأشخاص ذوي الآراء المُعارضة والاستهزاء بهم. أمّا في الولايات المتّحدة، فقد أدّت الصّراحة الصّادقة في المناقشات السياسيّة الأخيرة إلى “قبول التحيُّز” فقط كما أوضح عالِم النّفس الاجتماعي كريس كراندال.
ومع ذلك، فإنّ التّخفيف من سوء الاستخدام المُحتَمل لحريّة التّعبير من خلال فرض الرّقابة، هو بحدّ ذاته عرضة للإساءة ويمكن أنْ يؤدّي بالتّالي إلى ضررٍ أكبر. هذا أمر بالغ الأهميّة نظرًا لأنّ حريّة التّعبير تدعم مختلف الحريّات الديمقراطيّة الأخرى، بما في ذلك حريّة المُعتَقد. وهنا يكمن السّبب في أنّ معاقبة الإساءة ينبغي أنْ تكون لاحقة، بعد وقوعها، بشروط مُحدّدة وواضحة (أنتَ تمنع السّائقين من تجاوز حدّ السّرعة عن طريق تثبيت الرّادارات بدلًا من منع السّيارات من تجاوز السّرعة القصوى).
علاوة على ذلك، ينبغي على السّلطات العامّة أنْ تلعب أيضًا دورًا أكثر فعاليّة في التأكّد أنّ كلّ المجموعات والأقلّيات تُعامل على قدم المساواة في حريّة التّعبير. كمسيحيّين، ينبغي أنْ ندافع عن تكافؤ الفرص والمساواة في الوصول إلى النّقاش العامّ لجميع المعتقدات والقناعات سواء كنّا الأغلبيّة أو الأقليّة.
الممارسة المسيحيّة لحريّة التّعبير
إنّ التمتّع بالحقّ في حريّة التّعبير لا يعني إمكانيّة استخدامها بدون مسؤوليّة. كما يذكّرنا بولس الرّسول في 1 كورونثوس 10: 23 أنّ “كلّ الأشياء تحلّ لي، ولكنْ ليس كلّ الأشياء توافق”، بينما يعلّمنا سفر الأمثال 17: 27 “ذو المعرفة يُبقي كلامه”. وبسبب معرفته عن مدى خطورة اللّسان، طلب الملك داود من الرّب أنْ “يجعل حارسًا ] لفمه [ ]…[ ليحفظ باب ] شفتيه [ (مزمور 141: 3)
في الواقع، يُنَظِّم الكتاب المقدّس حريّتنا في التّعبير: “لا تنطق باسم الرب إلهك باطلًا” (خروج 20: 7)؛ “لا تشهد على قريبك شهادة زور” (خروج 20: 16)؛ “وأمّا الآن فاطرحوا عنكم أنتم أيضًا الكلّ: الغضب، السّخط، الخبث، التّجديف، الكلام القبيح من أفواهكم”؛ “ولا يطعنوا في أحد، ويكونوا غير مُخاصمين، حُلماء، مُظهرين كلّ وداعة لجميع النّاس” (تيطس 3: 2)؛ “ليكن كلامكم كلّ حين بنعمة، مُصْلَحًا بملح” (كولوسي 4: 6)؛ ومع ذلك، ينبغي ألّا تمنعنا هذه الضّمانات أو تُعيقنا عن قول الحقيقة حتّى لو خَدَش محتوى خطابنا النّاس بأسلوب خاطئ (يمكننا دائمًا التحكّم بالأسلوب وصقله!).
من الناحية العمليّة، ينبغي أنْ نسلك طريق الإقناع بدلًا من الاستفزاز مع يقيننا أنّ الكلام السّهل غير مضمون كما يحذّر دايفد فرنش. فنحن نحتاج إلى إظهار التّعاطف والتفهُّم عندما يُجادل الشّخص من خلال تجربته الشخصيّة دون التخلّي عن الحاجة إلى الجدال العقلاني والمعقول. إضافةً إلى ذلك، نحتاج إلى الشّجاعة والحكمة للتحدّث عندما نعلم أنّ أفكارنا جديرة بالاهتمام. هذا ما فعله مارتن لوثر بالضّبط ما شكّل مدخلًا نحو الإصلاح. علاوة على ذلك، يجذبنا الكتاب المقدّس كمسيحيّين أنْ نتحدّث نيابةً عمّن لا صوت لهم حتّى حينما لا يكون ذلك الإجراء الشّائع الذي ينبغي القيام به، كما جاء في سفر الأمثال 31: 8 – 9 “افتح فمك لأجل الأخرس في دعوى كلّ يتيم. افتح فمك. اقْضِ بالعدل وحامِ عن الفقير والمسكين”.
وأخيرًا، فإنّ القيود التي قد نفرضها على أنفسنا لا يمكن فرضها على المجتمع ككلّ كما نوقش في القسم السّابق. بعبارة أخرى، على الرّغم أنّني قد لا أرسم نبيّ الإسلام رَسْمًا كاريكاتوريًّا، إلّا أنّني لن أمنع الآخرين من القيام بذلك.
ليمنحنا اللّه الحكمة لنعبر هذه المياه المُضطّربة.
لأغراض الإيجاز، لم أتناول في هذه المدوّنة مسألة حريّة التّعبير في لبنان والعالَم العربي الأوسع. كيف يمكننا كمسيحيّين في الشّرق الأوسط أنْ نتعامل مع حريّة التّعبير في سياق ديني للغاية ومُتَفجِّر في بعض الأحيان؟ وكما يظهر من مقال جايسن كاسبر في المسيحيّة اليوم، لا يوجد إجماع حول هذا الموضوع. فما هو رأيكم؟