بقلم كالب هاتشرسون
تخيّلوا معي للحظة المشهد التالي في خدمة الكنيسة صباح الأحد …
——
عند دخولك مركز العبادة، ترى الغرفة بأكملها مغطاة بألوان العلم. وأقوال وطنية رنّانة تتطاير في كلّ أرجاء القاعة حيث يجتمع المصلّون الأمناء باحثين عن مكان يجلسون فيه. وثمّة كتاب مقدس كبير بارز موضوع على المذبح مع مجموعة متنوّعة من الرموز الوطنيّة. تبدأ الخدمة بالترنيمة الوطنيّة “لله والوطن” ويدخل على أنغامها موكب من رجالٍ بالزّي العسكري. يسيرون إلى الأمام ويجلسون في مكان بارز حيث خصّصت لهم مقاعد الشرف. يبدأ الراعي في القراءة من أخبار الأيام الثاني 7 :14: ” فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ وَصَلَّوْا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ الرَّدِيةِ فَإِنَّنِي أَسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُمْ.” [نهاية المشهد]
——
هل يفاجئك أن تسمع بأنّ هذا المشهد المألوف يصوّر واحدًا من أكثر أنواع الدمج دموية ما بين المسيحيّة والسياسة في تاريخ الكنيسة؟ قد يبدو ذلك ميلودراميًا. ومع تبديل الألوان الوطنيّة للعلم والرموز القوميّة التي تخيّلتها على المذبح، يبيت أمامك مشهد يصوّر ظاهرة ظهرت مرارًا وتكرارًا في سياقات تاريخيّة مختلفة.
قد تكون النسخة الأكثر شهرةً لهذا المشهد هي عندما دمج المسيحيون الألمان العقيدةَ المسيحية والأيديولوجية النازيّة. غير أنّ ثمّة العديد من الأمثلة الأخرى على القوميّة المسيحيّة. لقد شهدت البرازيل والمملكة المتحدة والهند وإسبانيا وروسيا ورومانيا جميع أشكال تلك القوميّة. حتّى هنا في الشرق الأوسط، كانت لدينا حركات سياسيّة مزجت بين الدين المسيحي والرموز الوطنيّة مولّدةً أشكالًا مختلفة من القوميّة المسيحيّة المتشدّدة. والنتيجة دائمًا مأساويّة.
وبالنظر إلى تاريخ لبنان، على وجه الخصوص، إلى ظروف الحرب الأهليّة اللبنانيّة، ثمّة أمثلة عديدة حول مشاركة المسيحيين في ميليشيات مسيحيّة علنيّة. وقد وُضِعَت أيديولوجياتهم السياسيّة في إطار حماية المسيحيّة. وكانت النتيجة تأجيج صراع طائفي مميت لا يزال لبنان تحت لعنته حتّى يومنا الراهن. وأستطرد هنا في ذكر هذا التاريخ في لبنان لأقول ببساطة إنّ القوميّة المسيحيّة ليست ظاهرة أمريكيّة أو “غربيّة” حصرًا.
فعليًا تُعتبر القوميّة المسيحيّة ظاهرة حديثة نسبيًا. وُلِدت في وقت ما في القرن الثامن عشر جنبًا إلى جنب مع فكرة “الأمم” وتعزيز “الهويّة الوطنيّة”. غير أنّ القوميّة المسيحيّة يمكن فهمها على أنّها شكل حديث من عقليّة “الأمميّة المسيحيّة” التي تسعى إلى تعزيز سيطرة الدين المسيحي وتثبيتها في مجال السياسة والحياة المدنيّة. إنّ ربط المسيحيّة بنزعة السيطرة هذه يعيدنا إلى شباط/فبراير من عام 380 بعد الميلاد ومرسوم تسالونيكي عندما جعل الأباطرة الرومان الثلاثة الحاكمون المسيحيّة النيقاويّة الديانة الرسميّة للإمبراطوريّة الرومانيّة وأجازوا نظام الدولة التأديبي واضطهاد المنشقين اللاهوتيين. منذ تلك اللحظة فصاعدًا، كان على المسيحيين الذين يتبعون يسوع أن يتعاملوا مع هذا السؤال الصعب:
ما علاقة المسيحيّة بأيّ هويّة سياسيّة مهما كانت وما علاقتها بالحياة المدنيّة؟ ماذا يجب أن تكون تلك العلاقة؟ وعلى وجه الخصوص، كيف يجب أن ترتبط المسيحيّة بالنفوذ والسلطة السياسيّة أو تستخدمها؟
في الأسابيع القليلة الماضية، نشر عدد من الإنجيليين البارزين في الولايات المتّحدة (بيث مور، وجيمار تيسبي، ومايكل هورتون) على وسائل التواصل الاجتماعي مستنكرين الشكل الإنجيلي للقوميّة المسيحيّة المتفشي والذي يشكّل حاليًا السياسة الأمريكيّة. جعلني هذا الحديث أفكّر في الطرق التي يساعد بها الصراع السياسي الحالي في الولايات المتحدة على فهم كيفيّة تطوّر القوميّة المسيحيّة بين الإنجيليين. والأهم من ذلك، تحديد ترياق جوهري واحد لهذه الظاهرة.
ثمّة كتابان جديدان، على وجه الخصوص، يقدّمان حججًا بارزة في هذا الصدد. يقدّم أندرو وايتهيد وصمويل بيري، في كتابهما “استعادة أمريكا لله”، تحليلاً علميًا اجتماعيًا لظاهرة القوميّة المسيحيّة في الولايات المتحدة اليوم. يعرّفانها على أنّها
إطار ثقافي – مجموعة من الأساطير والتقاليد والرموز والروايات وأنظمة القيم – التي تمثّل وتدعو إلى دمج المسيحيّة مع الحياة المدنيّة الأمريكيّة … تمثّل “المسيحيّة” في القوميّة المسيحيّة شيئًا أكثر من الدين. كما سنبيّن، فإنّها تتضمّن افتراضات مذهب الأصلانيّة، وتفوّق البيض، والنظام الأبوي، ومعياريّة المغايرة، بالإضافة إلى العقوبة الإلهيّة للسيطرة الاستبداديّة والنزعة العسكريّة. إنّها عرقيّة وسياسيّة بقدر ما هي دينيّة.[1]
يسلّط هذا التعريف الضوء على التوجه السياسي والديني المحافظ. هذا الجزء اللاهوتي هو ما يهمّني بصورة خاصّة لأنّه يبدو أنّ القوميّة المسيحيّة مرتبطة بالمعتقدات اللاهوتيّة الإنجيليّة “المحافظة” حول الكتاب المقدس، والعلاقات بين الذكور والإناث، والمعتقدات حول المستقبل. هل من أمر في اللاهوت الإنجيلي يؤدّي إلى القوميّة المسيحيّة؟
يجادل وايتهيد وبيري بأنّ القوميّة المسيحيّة مرتبطة بأشكال الإنجيليّة التي تركّز فهمها للأخلاق على الإخلاص للدين والأمّة حصريًا، بدلاً من إظهار الرأفة والاهتمام بالآخرين.
في الكتاب الثاني، “يسوع وجون وأين”، توصّلت كريستين دو ميز إلى استنتاج مماثل من تاريخ الإنجيليّة البيضاء في الولايات المتّحدة. ومن خلال تتبّع الممارسات الإنجيليّة التاريخيّة، بدلاً من الالتزامات اللاهوتيّة، توضح كيف أنّ مذهب الإنجيليّة البيضاء جزء من المشكلة حيث تُعطى الأولويّة لنسخة ذكوريّة متشدّدة من المسيحيّة ويُعزّز الدفاع عن السيطرة السلطوية وحماية الذات والنّاس خاصّتنا.[2] ما يثير قلقي إلى حدّ متزايد هو العدد الكبير من الإنجيليين اللبنانيين والعرب الذين يتبعون هذا الاتجاه الإنجيلي الأمريكي الأبيض في السنوات الأخيرة.
وبالطبع، ليس من الضروري أن تؤدّي المعتقدات الإنجيليّة إلى القوميّة المسيحيّة. غير أنّ كلا الكتابين يوضحان بقوّة المشاكل داخل المذهب الإنجيلي عندما تعطي ممارستنا الأولوية للاستحواذ على السلطة السياسيّة أو الثقافية والدفاع عنها. القوميّة المسيحيّة هي وثنيّة سياسيّة لأنّها تغفل عن عنصر أساسي في الممارسة المسيحية.
إنّه عنصر يذكّرنا به آباء الصحراء، الرهبان الذين فرّوا من الإمبراطوريّة “المسيحيّة”:
“ما هو الإيمان الحي؟” هذا هو السؤال الذي طُرح على بومن ذات يوم. أجاب: “الإيمان الحي يتكوّن من التفكير الضئيل بالذات وإظهار الرأفة تجاه الآخرين.”[3]
وهذا ليس إلّا مثال واحد لممارسة مسيحيّة تتسم برفض التمسّك بالسلطة والنفوذ، واستبداله بتركيز نهج المرء في الحياة على رعاية الآخرين. هذا التقليد المسيحي موجود لأنّ شخص الله المُعلَن عنه في المسيح يوجّهنا إلى رعاية الله التفضيلية لـ “الآخر” … أولئك المهمّشين والمظلومين. إنّه في نشيد رجاء مريم الذي سيُولد المسيح قريبًا من أحشائها (لوقا 1):
“تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ،
وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي،
لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي،
لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ،
وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ.
صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ.
أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ.
أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ.“
تُنكر القوميّة المسيحيّة المسيح حين تسعى إلى النفوذ للحفاظ على الدين والأمّة. وتوفّر تأثيرات هذا النوع من السياسة الحجّة الوحيدة الأكثر فاعليّة لإبعاد الدين عن الشأن العام. الترياق المضاد للقوميّة المسيحيّة هو الرأفة والعناية المتمحورتان حول الآخر. ومن خلال إبقاء الأشخاص المهمشين والمظلومين على رأس أولوياتنا في تفكيرنا وممارساتنا، تمامًا كما يعلّمنا المسيح أن نفعل، فإنّنا نُبطل مفعول أنواع الإيديولوجيات السياسيّة المتفشيّة في وسطنا والتي تخلّف الإساءة والدمار في أعقابها.
يدرّس كالب اللاهوت في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة منذ 2011 وتثيره حماسة التغلّب على زحمة السير في بيروت بركوب درّاجته النارية.
الحواشي:
[1] Andrew L. Whitehead, and Samuel L. Perry, Taking America Back for God: Christian Nationalism in the United States, (Oxford: Oxford University Press, 2020) p.10
[2] Kristin Kobes De Mez, Jesus and John Wayne: How White Evangelicals Corrupted a Faith and Fractured a Nation, (New York: Liverlight, 2020) p.5-9
[3] Sabine Baring-Gould, Lives of the Saints, 2nd ed. (London: John Hodges, 1875) p.342