بقلم ربيع الحصباني
لا أدري إن كان يجب أن أسمّيه فايسبوك أو كولوسيوم الزمان الراهن. في القرن الأوّل كانت تُنظّم الصراعات في حلبة الكولوسيوم الروماني حيث يحتشد المتفرّجون على المدرّجات لمشاهدة مباريات المصارعة. أمّا اليوم أصبح الفايسبوك حلبة معارك مفتوحة. والقتال من نوع آخر إذ نشهد مجادلات كلاميّة بين ناس مدفوعين بعدم احترام الاختلاف في الرأي ما يعكس التعصب لنظامٍ سياسي أو لطائفة دينية أو المغالاة في التعبير عن شكلٍ آخر من أشكال التطرّف. والمشكلة ليست في النقاش بحدّ ذاته بل بأساليبه الخاطئة وعواقبه المدمّرة. النقاشات الصحية بالأساليب السليمة تساهم في تعزيز الانفتاح وتصحيح المواقف وتعديل التطرّف. أمّا النقاشات والجدالات التي أقصدها في هذه المدوّنة هي تلك التي سرعان ما تؤدّي إلى الكراهية وتشويه سمعة الآخر واغتيال الشخصيّة افتراضيًا وفي نهاية المطاف تفكّك وحدة جسد المسيح.
أعترف أنّني اعتدت الانزلاق آنفًا في هذه المجادلات قبل أن أدرك أنّني أجادل للدافع الخاطئ. نحن كأبناء الملكوت غايتنا هي تقدّم الملكوت وقيّمه التي تتصف بالعدالة والخير والصلاح. إرساليتنا ليست تعزيز حكم الزعماء السياسيين من رؤساء بلدان وملوك العروش وسواهم من أصحاب النفوذ الآخرين والأنظمة السياسيّة. وليس هدفنا أيضًا تعزيز الطوائف أو العقائد مهما امتلكت من الحق بل انتشار أخبار المسيح السارّة في عالم يائس. لم أكفّ عن نشر آرائي في الشأن العام وتوضيحها لكلّ من يسأل وتفسيرها لمن يشكّك بصحّتها.
الجدالات المدّمرة تخترق الحدود الجغرافية وذلك بسبب انتشار المعلومات عبر شبكة الإنترنت. على سبيل المثال، في فترة الانتخابات الرئاسيّة الأمريكية كان العالم كلّه متتبعًا للأخبار والمستجدات سواء صوّتوا أم لا أو سواء كانوا مواطنين أمريكيين أم لا. كثيرون حول العالم كان لهم رأي في ترامب وبايدن. وكان هناك تفاعل كبير بين المسيحيين الإنجيليين في الولايات المتّحدة كما في الشرق الأوسط على حدّ سواء. رأيت منشورات من الصلوات التي رُفِعت لأجل فوز مرشّح على الآخر، وكان هناك تراشقًا كلاميًا بين مناصري الطرفين. كلّ ذلك كان بذريعة أنّ مرشّحهم المفضّل سيعزّز المسيحيّة وتعاليمها أكثر من الآخر. ربّما قد نسي أتباع المسيح أنّ ملكوت الله لا يرأسها رؤساء وملوك هذه الأرض ولا يمكن أن نقتصر شعب الله بحدود أمّة محدّدة. المسيح جاء إلى العالم أجمع (يوحنا 3: 16). أليس من الأفضل أن تكون نقاشاتنا حول كيفية نشر تعاليم الملكوت وتطبيقها واقعيًا في مجتمعاتنا بغض النظر عن الزعماء السياسيين؟ ألا ينبغي أن نتعمّق في الكتاب المقدّس بحثًا عمّا يجب أن يكون موقف الكنيسة في مواضيع الشأن العام والمواطنة؟ إذا فعلنا ذلك، فربما تتقدّم الوحدة على الانقسام في منصّات نقاشاتنا.
أمّا بالنسبة إلى لبنان، بلد الطائفية، كثيرون ينخرطون في مجادلات حول شخصيات وطنيّة تمثّل المجتمع الإنجيلي. البعض يمدح هؤلاء الشخصيات والآخر ينتقد والطرفان يتراشقان عشوائيًا بآياتٍ من الكتاب المقدّس، معظمها من خارج قرينتها الكتابيّة، بغية دعم حجّتهم. واستخدام الكتاب المقدّس لأهداف خاطئة هو آفة متفشّية وسط العالم الإنجيلي. والهم الأكبر لكلّ من الأطراف ما إذا كانت الطائفة الإنجيليّة تُمثّل جيّدًا أم لا في الساحة السياسيّة والشأن العام. وغالبًا ما ينسى أتباع المسيح اللبنانيون أنّ الله لا يطلب الولاء لطائفة بل الأمانة لله. ودعونا هنا ننظر إلى الفرق بين الاثنين.
الولاء لطائفة ما يتطلّب الالتزام بالطائفة دون طرح الأسئلة والافتراض أنّ الطائفة أمينة لله. أمّا الأمانة لله فتتطلّب طرح الأسئلة عند الضرورة وفحص التصرّفات والمواقف في ضوء كلمة الله. الأمانة المسيحيّة السليمة لا تضع الطائفة أولّا بل الله وحقّ الله ومحبّة الله والقريب. وبدلًا من المجادلات حول أفضل تمثيل للإنجيليين في الحلبة السياسيّة يمكننا تمثيل الملكوت بصورة أفضل والسعي لنشره في مجتمعاتنا في العالمين الواقعي والافتراضي. يمكننا السعي إلى إيجاد أرضيّة مشتركة مع من نختلف معهم في الآراء والعمل معًا لتحقيق الخير العام لبلدنا. يمكننا أن نتخذ من الاختلاف فرصًا لبناء جسور التواصل وتوطيد الألفة والسعي إلى وحدة تُنتِج أعمالًا صالحة تقدّم إنجيل الرجاء.
يقدّم بولس إلى أهل كورنثوس تشخيصًا واضحًا لأساس الانقسام بين شعب الله في الكنيسة ويدعوهم لوحدة أكبر. وتوضح الرسالة دور قادة الكنيسة في استعادة الوحدة للكنيسة. يعالج بولس الطريقة التي قسموا بها أنفسهم إلى فصائل حسب المعلّم الذي يتبعونه ويحثّهم على الوحدة في المسيح وحوله.
فَأَنَا أَعْنِي هذَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَقُولُ: «أَنَا لِبُولُسَ»، و«َأَنَا لأَبُلُّوسَ»، وَ«أَنَا لِصَفَا»، وَ«أَنَا لِلْمَسِيحِ». هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟ أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ، أَمْ بِاسْمِ بُولُسَ اعْتَمَدْتُمْ؟” (1 كورنثوس 1: 12- 13).
يذكّرهم بولس أنّ جميع الرسل هم آنية تحمل إنجيل المسيح الذي هو الأساس غير المنقسم. عندما نختار اتباع المسيح نختاره ليكون الأوّل دون سواه وإذا كان هو الأوّل في حياة جميع أتباعه فلا بدّ أن يكون أتباعه متحدين فيه. وفقًا للسياق الكتابي، فإنّ الوحدة تواجه تحديات عديدة والحفاظ عليها يتطلّب مثابرة كبيرة. سيبقى هناك دائمًا آراء مختلفة ولكن لا يجب أن ننظر إليها أولًا بل أن ننظر إلى المسيح. وبذلك تتحقّق الوحدة رغم الاختلاف.
وبولس نفسه، الذي يدعو بإصرارٍ إلى الوحدة، لم يلتزم الصمت عندما اختلف في الرأي مع بطرس ومواقفه. ونرى أنّه يجادل بطرس الذي كان يلزم الأمم على التهوّد بينما هو نفسه كان يأكل مع الأمم (غلاطية 2: 11 -19). فبالنسبة لبولس المسيح هو أساس الإيمان وليس الفرائض اليهودية. كان بولس يقدّم الحق من دون أيّ تردّد وأدرك أنّه لا يمكن المساومة على الحق ولو اختلف مع بطرس في رأيه. قد تعتقدون أنّه بعد هذه المواجهة المحرجة، كان من الممكن أن ينفصل الرسولان كلّ في طريقه. بالتأكيد، المشاعر الجريحة قد دمّرت قسمًا كبيرًا من العلاقات بين الطرفين. غير أنّ بطرس تمكّن من أن يرى المسيح الذي في بولس والحقّ الذي لديه لدرجة أنه في إحدى رسائله، امتدح كتابة بولس قائلًا: “كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضًا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ” (2 بطرس 3: 15). تعكس هذه الحادثة اختلافًا في الرأي بين الرسولين، لكنّها تتكشف لاحقًا إلى إجماع على الحق والحفاظ على الوحدة في جسد المسيح.
وما يمكننا تعلّمه أنّ وجهات النظر المختلفة والتعبير عنها بلياقة ليس خطيئة ولا يجب أن نتوقّف عن التعبير عن وجهات نظرنا طالما تمكّنا من المحافظة على الوحدة. على الرغم من أنّنا قد نناقش بحقّ،
قد تتسبّب الاختلافات بالكثير من الأسى بين الناس، ولكنّها قد تؤدّي أيضًا للكثير من الاكتشافات وأنماط التفكير الجديدة. فشاركوا أفكاركم بانفتاح بينما تصغون دائمًا للآخرين، واسعوا دائمًا لتحصيل الأفضل من أيّ حديث بين بعضكم البعض.
لو لم يكن ربيع مترجمًا ومسؤول برنامج التعلم عن بُعد في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، كان ليكون مهندسًا معماريًا يصمّم المباني بأسلوب أنيق