بقلم مايك كون
هذا الخط الذي يتوسّط كلمة “الإرساليّة” في العنوان هو متعمّد. أتخيّل أنه بالنسبة لمعظم قرّاء هذه المدوّنة، تثير كلمة “إرساليّة” دلالات إيجابيّة حول العطاء الباذل والمآثر البطولية للمرسلين في الحقبة الماضية. أنشأ المرسلون البروتستانت الأوّلون في الشرق الأوسط المدارس والمستشفيات والكنائس التي لا زالت تؤثّر في المجتمع وستظل. خاطر البعض بحياتهم بمواجهة معارضة شرسة. تنشط الإرسالية المسيحيّة اليوم، إلى جانب اهتماماتها الكرازيّة، في التعليم والإغاثة والتنمية. وإنّه لمن الصواب أن نحتفل بالثمار الجيّدة التي أتت بها هذه الجهود.
غير أنّ ثمة وجهة نظر أخرى. لقد صُدمت مؤخرًا عند قراءة كتاب مدفعية السماء لأسامة مقدسي (Artillery of Heaven) (مؤرّخ العرب في جامعة رايس) بمدى الاختلاف الصارخ في المنظور الآخر. يروي المقدسي استشهاد أسعد الشدياق – أول بروتستانتي تحوّل من الطائفة المارونية (الروم الكاثوليك) في لبنان. وتوفي الشدياق في حبس في دير في جبل لبنان. احتفل به المرسلون البروتستانت كأوّل شهيد بروتستانتي. غير أنّ وجهة نظر مقدسي تطرح أنّ عجز المرسلين البروتستانت المتهور على فهم الثقافة ومنظور رؤية العالم لمسيحيّة الشرق الأوسط أدّى إلى موت الشدياق المأساوي وغير المبرّر. في الواقع، إنّه يحدّد الدافع للحماس الإرسالي الباكر للبروتستانت في جهودهم الحثيثة لمسحنة سكّان أمريكا الأصليين. ويشدّد على “تصوّر أساسي للعمل الإرسالي: أولئك الذين يخلصون كانوا أهدافًا للتحول الكلّي، تُطمس ثقافتهم، يتم تجاهل تاريخهم، ويُحرمون من المساواة باستمرار” (مقدسي، 2011، ص 57). يرى مقدسي أنّ البروتستانت الأمريكيين، بعد أن فشلوا في تحضير الأمريكيين الأصليين، وجّهوا حماستهم إلى الخارج وانخرطوا في مهمّة عالمية بالتجاهل المتهوّر نفسه للشعوب والثقافات الأخرى.
ماذا إذًا؟ تاريخ نبيل لبذل الذات في خدمة الله والإنسانية أم الغرور الإمبريالي للمتعصبين الدينيين؟
أعترف أنّه من الصعب الاستماع إلى نقد مقدسي. أنا مستثمر بعمق بسعي الإرسالية المسيحية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي على نطاق واسع. ومع ذلك، أريد أن أسمع ما يقوله. أريد أن آخذ نقده بعين الاعتبار، وأن أسأل نفسي وأسألكم ما إذا كنّا بحاجة إلى إجراء تغييرات كبيرة.
مقدسي ليس الصوت الوحيد الذي ينتقد الإرسالية البروتستانتية. فقد ظهرت أصوات أكثر تعاطفاً معه. أحدها كتاب مايكل ستروب “تجاوز تقليد الإرسالية الحديثة“. يغوص ستروب بعمق في تاريخ “الإرساليّة” ويقترح أنّ ثمة عيوبًا خطيرة تشوبها بما في ذلك التداخل مع الاستغلال السياسي والاحتلال العسكري والافتراضات الاستعمارية. ويقترح التخلي عن كلمة “إرساليّة” لإنّ لها تاريخ غير قابل للإصلاح ولم يعد بإمكانها تمثيل كنيسة المسيح العالمية في مسيرة شهادتها للرّب المصلوب والمُقام (انظر هذا الملخّص والرّد لمرتان عقّاد).
لنفترض أنّ الكنيسة العالمية تستمع إلى هذا النقد، ما الذي يمكن أن نفعله على نحوٍ مختلف؟ هل وقف شهادتنا العالميّة هو البديل الوحيد؟ إعادة جميع المرسلين عبر الثقافات إلى وطنهم؟ وبالنظر إلى مأمورية يسوع العظمى، فالطبع لن يكون الاستسلام والتنحّي أفضل أمر نقوم به. لكن ماذا سنفعل؟ كيف نتابع شهادتنا في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي؟
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال، تأمّل في موسم التغيير السريع الذي تمرّ به المنطقة، وحتّى العالم. أولاً، الكنيسة نفسها الآن عالميّة ومتعدّدة الثقافات. إذا كنّا نفكّر في أنّ الإرساليّة نشأت في الغرب، فنحن مازلنا متأخرين عقودًا خلف حركة روح الله ومن المحتمل أن نكون عالقين في الفكر الاستعماري. من المحتمل أن يكون صوت الشهادة لهذه الكنيسة العالميّة نابع من كوريا أو البرازيل أو نيجيريا تمامًا كما هو من المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة أو كندا، وهي حقيقة قادت علماء المسيحيّة العالميّة إلى التصريح أنّ الإرساليّة أصبحت الآن متعدّدة المراكز – من كلّ مكان إلى كلّ مكان. في الواقع، مع تراجع الكنيسة الغربيّة، تعمل بلدان العالم النامي على إنعاش الكنيسة العالميّة.
ثانيًا، تمرّ البلدان الإسلاميّة أيضًا بتحوّلات نموذجية ذات أبعاد تاريخية بدءًا من حلّ الخلافة على يد أتاتورك في أوائل القرن العشرين. منذ ذلك الحين، خاضت الدول القوميّة الإسلاميّة معارك من أجل الحصول على الاستقلال، وطرد المحتلين، وتقاتلت فيما بينها. وفشلت محاولة إحياء الخلافة. على الرغم من أنّ الربيع العربي قد تلاشى، إلّا أنّ توق الشباب العربي لا يزال يصدح بلا مقابل. تتنافس الحركات الدينيّة الرجعيّة ضد التوغل الإعلامي العالمي، ما يجعل التوترات المجتمعية تصل إلى الغليان. ثمّة خلاف متزايد بين السنة والشيعة. وفي خضم كلّ ذلك، عبّر رجال الدين المسلمون عن معارضتهم للتعبيرات المتشددة والسلفية (الإصلاحية) للإيمان، بل ودعوا المسيحيين إلى حوار يتمحوّر حول الوصيتين العظمتين ليسوع (كلمة سواء)! في العالم الإسلامي اليوم، يبدو أنّ الأمر الوحيد الثابت هو التغيير نفسه.
ثالثًا، يبدو أنّ ثمة استجابة فريدة لإنجيل المسيح من قبل الشعوب المسلمة في بيئات متنوعة. يوثّق كتاب ديفيد جاريسون “الريح في بيت الإسلام” حركات أتباع يسوع الجدد في العالم الإسلامي. وإنّ حركات الملكوت هذه لكنائس بسيطة ومتكاثرة لم يسبق لها مثيل تاريخيًا. قد يكون هذا بداية فصل جديد في تاريخ انتشار الإنجيل إلى الأمم.
على الرغم من أن نقد تاريخ “الإرساليّة” يجب سماعه والانتباه إليه، لم يحن الوقت للانسحاب من ساحة الشهادة العالمية للمسيح. كبداية للمحادثة وليس من باب الفرض، إليكم بعض الاقتراحات، المختصرة من مقال حديث، لطريقة أكثر إيجابية للمضي قُدمًا.
أولاً، يجب عدم تسييس شهادتنا، لا سيّما في الولايات المتحدة حيث يتمّ ربط الإنجيليّة الحاليّة باليمين المتطرف في الطيف السياسي بصورة كارثيّة. مقالة كالب هتشرسن عن القوميّة المسيحيّة تصيب النبرة الصحيحة. يسود تعبير مسيّس عن الإيمان على الإرساليّة بسبب هيمنة المرسلين الأمريكيين ووسائل الإعلام الأمريكية. فالمسلمون يرون أنّها تكرار جديد للعقليّة الصليبيّة. الولاء المطلق فقط إلى ملكوت الله الذي افتتحه يسوع. وبينما ننتظر اكتماله، يجب أن ننظر إلى كلّ انتماءاتنا السياسية بعين ناقدة.
ثانيًا، يجب أن تسيّق شهادتنا. من المؤسف أن جدلًا ثنائيًا بشأن تسييق رسالة الإنجيل قد نشأ فيما يتعلق بترجمة الكتاب المقدس (خاصة العبارات العائلية “ابن الله” و “الآب”). كما أنّ التقنيات السطحيّة التي يستخدمها بعض الممارسين المغتربين للإرساليات قد أساءت مصداقية المحاولات لممارسة التسييق المناسب. غير أنّ جلب الإنجيل إلى ثقافة جديدة يتطلّب وعيًا بالزخرفات الثقافية التي ترتبط بشهادتنا للإنجيل. كان ليسلي نيوبجين محقًا في قوله إنّ كلّ تعبير للإنجيل “مشروط ثقافيًا” يعني أنّ كلّ من يحمل رسالة الإنجيل يضفي على الإنجيل من دون قصد صبغة ثقافته. بما أنّ التجسد قدوة لنا، فإنّ إنجيلنا سوف يستبعد بعض عناصر الثقافة المتلقِية ويتضمن عناصر أخرى. يجب أن نسير مع التلاميذ المحليين في سياقهم فيما هم يميّزون، ويساعدونا على فهم التوازن الكتابي في ثقافتهم.
ثالثًا، يجب أن تكون شهادتنا تكامليّة أو شموليّة. يجب أن تظل أولوية التبشير بالإنجيل وغرس الكنائس مركزية في شهادتنا العالمية. غير أنّها يجب أن تُدمج أيضًا بالانخراط مع الفقر والتهجير والاستغلال والتمييز والعديد من أشكال الظلم الأخرى. يوضح بحث روبرت وودبيري حول تأثير “الإرساليّة البروتستانتية التحويليّة” أنّ التركيز على الكرازة قد أدّى تاريخيًا إلى تحسين اجتماعي بارز، وهي حقيقة واضحة أيضًا في تاريخ التجديد الروحي الإنجيلي.
رابعًا، يجب أن تعيد شهادتنا مركزيّة الكنيسة. إنّ الهدف من زرع بذور الإنجيل هو ولادة الكنيسة المحليّة التي تصبح تعبيرًا عن ملكوت يسوع في السياق الجديد. كانت الكنيسة في سفر أعمال الرسل قابلة للتكيّف، حيث اجتمعت في رواق سليمان (الهيكل) وانتقلت في كسر الخبز من بيت إلى بيت. إضفاء الطابع المهني على الخدمة بما في ذلك بعض تعبيرات الإرساليّة يعيق الانتشار السريع للكنيسة. كانت طريقة بولس هي تعيين شيوخ في كلّ مدينة أثناء انتقاله إلى مراكز حضرية جديدة. يكمن التحدي إذن في توفير تدريب مستمر مناسب لأولئك المعيّنين للخدمة بينما يُعهد إليهم رعاية تجمّعات صغيرة غير تقليديّة متكاثرة للمؤمنين الجدد – الكنائس.
خامسًا، يجب أن تكون شهادتنا في وحدة. يتبادر إلى الذهن جانبان من هذه الوحدة. الأوّل هو الوحدة العالمية للكنيسة. يجب على الغربيين التكاتف في المعاملة بالمثل مع الشهود غير الغربيين. ضمنيًا، يتطلّب هذا تحرير حكم السيطرة الماليّة وأشكال الهيمنة الأخرى مع ضمان المساءلة المتبادلة. الجانب الثاني للوحدة هو محاولة جادة لإصلاح التشرذم التاريخي للكنيسة. إنها مهمة صعبة بالتأكيد، لكن حقيقة وجود جسد واحد فقط للمسيح يجب أن تكون أمامنا دائمًا. على حدّ تعبير ديفيد بوش، “إنّ المسؤولية الإرساليّة الأولى للكنيسة ليست تغيير العالم بل تغيير نفسها” (شاهد للعالم، 246).
باختصار، يجب سماع نقد “الإرساليّة”، ويجب إجراء تغييرات مهمة. غير أنّه بدلاً من العودة إلى الوطن محبطين، يجب أن نتعلّم الدروس ونثابر في طاعة متواضعة للمأموريّة العظمى. يجب أن تبدو هذه الطاعة مختلفة في العقود القادمة عندما نقوم بتقييم أخطاء الماضي ونشارك بوعي وإدراك للوقائع العالميّة الجديدة.