بقلم نبيل حبيبي
لا أركّز عادة على آيات كتابية منفردة، بل أحبّذ التأمّل بمقاطع كاملة وأفكار مترابطة عبر عدة نصوص. ولكن بقيت آية محدّدة في فكري منذ أن وعظت من 1 كورنثوس في كنيستي المحلية في مطلع هذا العام.
كلا، ليست ” أنّي لَمْ أعزِمْ أنْ أعرِفَ شَيئًا بَينَكُمْ إلّا يَسوعَ المَسيحَ وإيّاهُ مَصلوبًا،” أو آية عميقة لاهوتيًا على غرارها. بل الآية التي جلبت الكثير من الفرح والتحدّي لي هي 1 كورنثوس 5: 12: “لأنَّهُ ماذا لي أنْ أدينَ الّذينَ مِنْ خارِجٍ؟ ألَستُمْ أنتُمْ تدينونَ الّذينَ مِنْ داخِلٍ؟”هذان السؤالان البلاغيّان يشكّلان مفهومًا كتابيًا لكيفية تعاطي المسيحيين مع الناس الذين يختلفون عنهم جذريًا من حيث المعتقدات والقيم وأساليب الحياة. نحتاج أن نصغي بانتباه إلى هذين السؤالين إذا أردنا أن نكون شعبًا مبنيًا على الكلمة المقدّسة.
نجد هذه اللؤلؤة الثمينة في أحد أكثر رسائل بولس اللاذعة، حيث يكتب للكنيسة في كورنثوس ليذكّرهم بأنّه لا مكان في المجتمع الجديد للمنفعة الشخصيّة وللخطايا الأنانيّة: ” أما تعلَمونَ أنَّكُمْ هَيكلُ اللهِ، وروحُ اللهِ يَسكُنُ فيكُم؟ إنْ كانَ أحَدٌ يُفسِدُ هَيكلَ اللهِ فسيُفسِدُهُ اللهُ، لأنَّ هَيكلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الّذي أنتُمْ هو” (3: 16-17).
يكتب بولس لكنيسة تبدو أنّها تشبه الهياكل الوثنيّة المحيطة بها أكثر من تشبّهها بملكوت الله في المسيح، فهم يعتمدون على “حكمة” هذا الدهر للسلوك والتفكير بدل الاعتماد على حكمة الله (إصحاح 2)، والذين يمتلكون كثير من المواهب الروحيّة يتكبّرون على من تنقصهم إيّاها (إصحاح 4)، والكنيسة مليئة بالفجور الجنسي (إصحاح 5)، وحتّى أنّ المؤمنين يشتكون على بعضهم العض في المحاكم (إصحاح 6). اللائحة تطول، وقد أتكلّم عن تحذير بولس لهم من عبادة الأصنام، السّكر وقت الاشتراك في مائدة الرب، وتحويل الاجتماع الأسبوعي إلى فوضى ألسنة بدون ترجمة. غير أنّني أعتقد أنّ الصورة باتت واضحة – يكفي أن تقرأ تهديد بولس لهم في 4: 21 إذا كنت تريد المزيد من التوضيح.
وفي وسط تلك الفوضى العارمة يأتي مقطع 5: 9-13 كتذكير منعش بأنّ بولس يكتب حول هذه المسائل كلّها إلى الكنيسة. همّمه الأوّل والأخير هو السلوك المقدّس (من الملفت أنّه يدعوهم “قديسين” في افتتاحيّة رسالته) للمجتمع الجديد وليس سلوك المجتمع الأوسع حولهم.
دعونا نلقي نظرة عن كثب على المقطع المذكور ونفكّر كيف يمكن أن نطبّقه في واقعنا اليوم. من بعد أن يعاتب الكنيسة على قبول الخطيّة الجنسيّة، يذكّرهم بولس برسالة آنفة كتبها لهم (ليست لدينا) حيث طلب منهم فكّ الارتباط ككنيسة بالأشخاص الزناة (عدد 9). ولكن بسرعة يحدّد كلامه بقوله، “وليس مُطلَقًا زُناةَ هذا العالَمِ…وإلّا فيَلزَمُكُمْ أنْ تخرُجوا مِنَ العالَمِ!” والخروج من العالم خيار مرفوض كليًا بحسب لاهوت يسعى لربح الناس للمسيح. ويستمر بتحديد وصيّته بقوله لهم أنّه يريد منهم عدم مخالطة من يُدعى “أخا” أيّ من ينتمي لمجتمع طريق المسيح (عدد 11). ومن ثم تأتي الآية التي اقتبستها في بداية المدوّنة. وينهي حجّته على نحوٍ قاطع في عدد 13: ” أمّا الّذينَ مِنْ خارِجٍ فاللهُ يَدينُهُمْ. فاعزِلوا الخَبيثَ مِنْ بَينِكُمْ.”
لقد انخرطت التقاليد والمدارس اللاهوتية الإنجيلية المختلفة لفترة طويلة في صراعات ثقافيّة. أوّل لقاء لي مع هذه الحروب كان صادمًا. أذكر نظرة الرعب على وجه عمّتي التي كانت تزورنا من الولايات المتحدة الأميركيّة حينما اكتشفت أنّني، الصبي الذي عمره 12 سنة، أقرأ قصص هاري بوتر التي تحتوي على سحرة وما شابه من خيالات. وأذكر أيضًا بدقّة عدم اقتناعي بضرورة ترك هذه الكتب لأنّه في خبرتي “الشاسعة” في الاستماع لقصص الكتاب المقدّس منذ نعومة أظافري لم يسبق وشعرت أنّ يسوع غير راضِ عن قراءتي لقصص هاري بوتر.
وإن ألقينا نظرة حولنا اليوم سنرى أنّ كنائسنا الإنجيليّة مشتبكة في حروب ثقافيّة مريرة مع عدة مجتمعات خارج الكنيسة. عدد كبير من قبيلتي يخوض حربًا ضدّ مجتمع المثليين، وآخرون يخوضون حروب ضدّ النسويّين وهوليوود والأحزاب السياسيّة التقدّمية وحركات التحرّر الإثنية وحركات وأيديولوجيات أخرى.
لا أكتب لأطلب من الكنيسة عدم الانخراط بالثقافة، بل أعتقد أنّ المطلوب هو عكس ذلك. بالأكثر بعد، كتبنا المقدّسة هي في أصلها حروب ثقافيّة. الكتاب المقدّس مجموعة من النصوص التي تحاول أن تلغي ثقافات معيّنة، فهي كُتبت لشعب الله كإعلانات لاهوتيّة ضدّ الثقافات المسيطرة في تلك الأيّام لأجل منفعة جماعة المؤمنين وبنيانهم.
ناموس موسى يحاول أن يلغي ويستبدل العبادات الوثنيّة المحيطة بالعبرانيين. سفر دانيال يعلن أنّ إله إسرائيل وليس آلهة بابل هو من يحكم العالم. الأناجيل تعلّم كنيسة يافعة كيف تلغي تعاليم الفريسيين وتعيش هويّة يهوديّة جديدة في المسيح. وبالطبع، 1 كورنثوس تحاول أن تلغي تأثير الديانات الرومانيّة وقيمها على مجتمع المسيحيين في كورنثوس.
غير أنّه ثمّة تحفّظ صغير وبسيط في 5: 9-13 وسط هذه الأعمال اللاهوتيّة الضخمة. هذه الكتب كُتبت للكنيسة. أنتجها مجتمع الإيمان من أجل مجتمع الإيمان لتتحدّى مجتمع الإيمان بينما يحاول أن يحيا بأمانة في مجتمع أوسع غير مؤمن. بولس ينظر إلى كنيسة 1 كورنثوس المليئة بالمشاكل ويكتب رسالة عتاب وانتقاد للكنيسة وليس للمجتمع الأوسع.
لا ينتقد بولس شرور الهياكل الوثنيّة في كورنثوس ولا الانحلال الأخلاقي في مجتمع كورنثوس، بل ينتقد الكنيسة من جل بنيان الكنيسة.
لا أمتلك كلّ الأجوبة حول كيفية التعاطي مع مجتمع معادي للقيم المسيحيّة. إلّا أنّ بولس والمسيح كانا واضحَين بخصوص هذا الأمر: لا نشتبك مع المجتمع الأوسع من خلال إدانته، بل نشتبك مع المجتمع الأوسع بتواضع ونعمة من خلال أعمال الرحمة والمساعدة، أعمال الشفاءات والعجائب، وأعمال الشهادة والوعظ عن قصّة يسوع المصلوب والمقام. ونشتبك مع الكنيسة بدعوة منعمة لتكوين مجتمع مقدّس وبار ومرضي لإلهنا القدوس والبار.
ما زلت أستمتع بقراءة قصص هاري بوتر بين الحين والآخر. وأنا منغمس في الصراعات السياسيّة لأجل مجتمع أفضل مع مجموعة من الناشطين السياسيين بما فيهم رفاق ملحدين ومثليين. يعرفون أنّني تابع للمسيح. أعرف أنّهم ليسوا أتباعًا للمسيح. لا أدينهم. أترك أمرهم لله.
نبيل مشغول بتعليم دراسات العهد الجديد في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، وفي وقته المتبقي يمارس المناصرة السياسيّة ويخدم الشبيبة في الكنيسة ويمضي وقتا ثمينا مع عائلته الرائعة.