الله سيدينهم: عن الجدل القائم حول ثقافة الإلغاء وعدم التدخّل بشؤون الخطاة
أبريل 22, 2021
رمضان كريم: أفكار للمسيحيين حول الانخراط مع المسلمين في رمضان
مايو 6, 2021

القرارات الصعبة والانسجام الصحي: استعارة التفكير في المهن كـ”فرقة موسيقيّة”

بقلم كيس فان دير كنيف

الاحتياجات في العالم هائلة، والاحتياجات في الشرق الأوسط صاعقة، والاحتياجات في لبنان في الوقت الراهن ساحقة. ككنائس وأفراد مؤمنين، يقدّم هذا لنا قرارات صعبة. فكيف نحدّد أين يجب أن نساهم في مجتمعاتنا؟ وكيف نقرّر أين لا نضيّع وقتنا وطاقتنا ومواهبنا؟

طوّرت جميع التقاليد المسيحية تقريبًا تيارات فكريّة غنيّة للتفكير في القرارات المحيّرة هذه. يتحدّث البعض عن إيجاد إرادة الله، ويتحدث البعض الآخر عن الدعوة والمهنة والتمييز والإرشاد والحكمة العمليّة. على الرغم من جمال هذه التقاليد وثرائها، ففي نهاية المطاف يعود الأمر دائمًا إلى “لحظة الفرصة الخطيرة” (أودونوفان)، إلى مغامرة اتخاذ القرار فعليًا.

في البلدان المزدهرة، قد يواجه الناس صعوبة في الاختيار بين عدة خيارات جيّدة ويخافون من فقدان الخيار الأفضل. غير أنّ في معظم مناطق العالم، يواجه أولئك الذين لديهم فرصة لاتخاذ مثل هذه القرارات مشكلة مختلفة: اختيار مسار واحد في معظم الحالات يعني اتخاذ قرار بعدم معالجة الاحتياجات الملحة الأخرى. على سبيل المثال، كيف نقرّر بين إعطاء الوقت لأطفالنا خلال عطلة نهاية الأسبوع أو المساهمة في خدمة أخرى في الكنيسة؟ كيف نأخذ وقتًا كافيًا لأنفسنا عندما يكون جميع الناس من حولنا محتاجين؟ تسلط هذه الأسئلة الضوء على أهمية الفهم اللاهوتي لاختيار المهنة.

تعرّفت منذ فترة على مقاربة لاختيار المهنة وجدتها مفيدة لا بل محرِّرة. ليس لأنّ هذه المقاربة تحلّ كلّ الصعوبات وتزيل كلّ التوترات، ولكن لأنّها توفّر لي أداة لأتعامل مع مثل هذه القرارات ولأفهم لماذا أجدها مقلقة للغاية.

ما أعنيه هو مقاربة اللاهوتي أوليفر أودونوفان للمهن كـ “فرقة موسيقيّة”. ترمز المهنة، في نهجه، إلى “فرقة من العلاقات والوظائف العالميّة التي من خلالها نُمنح الفرصة […] لخدمة الله وتحقيق فاعليتنا” (Finding and Seeking, 224). على الرغم من أنّ أودونوفان لا يفكّك فكرة “الفرقة الموسيقيّة” بكلّ دلالاتها الموسيقيّة، إلّا أنّني أود أن أقوم بذلك بنفسي.

قد يبدو التفكير في حياتنا الشخصية كفرقة من الموسيقيين يساهمون جميعًا بأصواتهم في القطعة الموسيقيّة أمرًا غير عادي في البداية. غير أنّ هذه الفكرة تُظهر عددًا من الأفكار والأسئلة المثيرة للاهتمام. بادئ ذي بدء، تؤكّد أنّ حياتنا دائمًا ما تكون عبارة عن تعاون لأدوار مختلفة تُلعَب في وقتٍ واحد. لسنا أبدًا مجرّد “راعٍ” أو “مبشّر” أو “طبيب” أو “عامل إغاثة” أو أيّ شيء آخر نميل إلى التماهي معه. نحن دائما أكثر من ذلك بكثير. التحدّي هو الجمع بين أدوارنا المختلفة بطريقة متناغمة. بالطبع يسهل قول هذا ويعسر فعله.

ثانيًا لهذا السبب نحتاج إلى أوقاتٍ لنفكّر بحياتنا ككل. عندما نركّز بصورة أساسيّة على أدوارنا الفرديّة، فقد ننسى أنّ جمع أجزاء فردية تُلعب بصورة مثاليّة يمكن أن تبدو عقيمة، في حين أنّ مجموعة متحمّسة من الموسيقيين المتوسطي المستوى يمكن أن يجعلوا الغرفة كلّها تتمايل على أنغام موسيقاهم. قد يكون التناغم الصحي في حياتنا أكثر أهميّة من أن نكون مثاليين في جميع أدوارنا.

هذا يقودنا إلى جانب ثالث. معظم الفرق ليس لديها عازفون منفردون ثابتون. في لحظة ما، سيحظى الساكسفون بانتباه الجمهور كامل، وفي لحظة أخرى سيحظى الكمان أو البيانو بالانتباه. بطبيعة الحال، ستكون بعض الآلات في دائرة الضوء أكثر من غيرها، لكن جميعها تحتاج إلى وقتها للتألق. من هذا المنظور، يمكنني أن أسأل نفسي أيّ الأدوار في حياتي تميل إلى جذب الانتباه (أكثر من اللازم) على حساب الآخرين. علاوة على ذلك، يساعدني ذلك لأتقبّل أنّه ستكون هناك مواسم في الحياة سيكون فيها لبعض الأدوار أهمية كبيرة قد تؤدّي إلى تقليل الوقت والطاقة المخصصين للأدوار الآخرين.

تساعد استعارة الفرقة الموسيقيّة أيضًا عندما يُطلب منّا الالتزام بمسؤوليات ومهام جدد. إضافة صوت جديد سيكون له انعكاسات على كلّ الأصوات الموجودة. هل هناك مساحة كافية لهذا؟ إذا كانت جميع الأصوات الموجودة في حدودها القصوى، فهل من الحكمة إضافة صوت جديد؟ أم يجب عليّ التخلي عن أحد الآخرين؟ إنّ القدرة على قول لا للمسؤوليات الجديدة أو التخلص من المسؤوليات الموجودة ليس ضعفًا، ولكنّه مهارة ضروريّة تُظهر واقعيّة عميقة لحدودنا البشريّة. كمسيحيين، قد يكون هذا مجالًا يتعيّن على الكثير منّا أن ينمو فيه.

تقدّم استعارة المهنة كـ “فرقة موسيقيّة” أيضًا أفكارًا تتجاوز حياتنا الشخصيّة. نفتقر إلى المساحة الكافية للكشف عن الآثار المترتبة على الكنائس، ولكن في رأيي تبرز ثلاثة دروس. أولاً، يؤكّد منشور مدوّنة معهد دراسات الشرق الأوسط السابق، الأهميّة المتساوية لجميع المساهمات داخل الكنيسة. الإغراء هو التركيز على العازفين المنفردين، أولئك الموجودين في الخدمات الظاهرة. ولكن مثلما يعلو الكمان على خلفية الصوت الجهير المزدوج، يعتمد الراعي وقائد العبادة على عدد كبير من الأشخاص الذين يتمّ تجاهل خدماتهم. التفكير في “الفرقة الموسيقيّة” يذكّرنا أن نشكر أولئك الذين لديهم مسؤوليات غير مُقدَّرة يوم الأحد المقبل.

الدرس الثاني هو تقدير التنوع داخل كنائسنا. أحد مخاطر قدرتنا على الاختيار بين مجتمعات كنسيّة مختلفة هو وجود تجمعات متجانسة. إذا كان التنوع في العمر وأنواع الشخصية والمستوى التعليمي وما إلى ذلك ضئيلًا في المجتمعات الكنسيّة، فقد يكون من الصعب الاستجابة للمهام المختلفة التي نحن مدعوون إليها ككنيسة.

أخيرًا، قد يساعدنا تطبيق استعارة الفرقة الموسيقيّة في أن نكون شاكرين للاختلافات في تقاليد الكنيسة. لا أنوي التقليل من أهمية المناقشات اللاهوتيّة لاعتناق تقليد معيّن، لكن خطر القبلية الطائفيّة يلوح في الأفق مرارًا وتكرارًا. غير أنّ اختلافاتنا قد تكون أيضًا شيئًا نشكر الله لأجله. بسبب القناعات اللاهوتيّة، قد تميل كنيسة ما إلى استثمار الكثير في أعمال الإغاثة، بينما تكرّس كنيسة أخرى الكثير من الطاقة للكرازة. إنّ كنيسة المسيح مدعوة لكليهما، لكن لا يمكن لأيّ جماعة أن تفعل كلّ شيء. كجسد المسيح، عندما نعزف معًا كفرقة موسيقيّة، قد نتمكّن من إتمام دعوتنا المشتركة.

كما هو موضح، أنا أؤمن بإمكانيات هذه الاستعارة الغنية للفرقة الموسيقيّة. بطريقة ما، تمثّل منظورًا جديدًا للاستعارة البولسية عن جسد المسيح (1 كورنثوس 12) وفكرة “كهنوت جميع المؤمنين”. تساعدني هذه الاستعارة على التفكير في قضايا الدعوة والمهنة ومقاربة قرارات الحياة. لا تزيل صعوبة القرار. ولا ينبغي أن تفعل ذلك. الحياة أكثر تعقيدًا من أن نتناولها بحلول مبسّطة. غير أنّ هذه الاستعارة تقدّم أمرًا إضافيًا مهمًا: إنها تضفي إحساسًا بالمرح والفرح على أسئلة قرارات المهنة التي غالبًا ما تكون محيّرة. نحن مدعوون للعزف أمام الله، آملين أن نرضيه، ولكن نعتمد دائمًا على نعمته. في نهاية المطاف، من هنا تنبع قراراتنا. القرارات نأسف عليها، وتلك التي نشكك بها والتي نحن على يقين منها.

أتذكر ترنيمة جميلة لجون نيوتن. في نهاية المطاف، موسيقى حياتنا ليست حاسمة بل موسيقى حياة يسوع وموته. حتّى عندما “يخور جهد قلبي، ويُثلج تفكيري الحار”، بالنعمة أبتهج “بموسيقى اسمك”.

كيس هو عالم في اللاهوت النظامي من هولندا وانتقل مؤخرًا إلى لبنان مع عائلته للانضمام إلى هيئة التدريس في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة.

اترك رد