بقلم مرتان عقّاد وكالب هاتشرسون
في مقابلة مع مجلّة تايم في عام 1963، يستذكر كارل بارث أنّه كان ينصح اللاهوتيين الشباب قبل 40 عامًا قائلًا “خذ كتابك المقدّس وخذ صحيفتك واقرأ كليهما. لكن فسّر الصحيفة وفقًا لكتابك المقدّس”. يبدو أنّه غالبًا ما استخدم أشكالًا مختلفة من هذه الصورة المجازيّة للحديث عن الحاجة إلى التفكير لاهوتيًا في العالم الذي نعيش فيه، ولكن أيضًا للتفكير في العالم الكتابي (وتفسيرنا له) في ضوء وضعنا الحالي. الفكرة هي أنّ كلّ منهما يهدف إلى تفسير الآخر.
سواء عرفنا ذلك أم لا، فإنّنا نواجه جميعًا هذا السؤال حول كيفية ربط إيماننا بالمشاكل الكبيرة التي تواجه المجتمع في كلّ عصر. والإجابات التي نقدمها على هذا السؤال سياسيّة حتمًا، بما في ذلك هنا في الشرق الأوسط.
في العالم العربي، غالبًا ما أخذ الانخراط المسيحي في الحياة السياسيّة واحدًا من نمطين رئيسَين. يشير طارق متري في فصله الذي يتتبع التاريخ الحديث للانخراط السياسي المسيحي في الشرق العربي، إلى أنّ النمط الأول اتبع نزعة قوميّة يغلب عليها الطابع “العلماني”، سواء أكانت عربيّة أم سوريّة أم وطنيّة. باتباع هذا النهج، تم تجاوز “الشعور بالأقليّة ووضعها” من خلال الانتماء القومي والقضية القومية (2005، ص 859). ونتيجة لذلك، يتم تنحية المعتقدات الدينية جانباً في محاولة خلق هويّة والتوحيد في إطار هويّة وطنيّة عربيّة أو سوريّة عامّة.
الخيار الآخر الذي حدّده متري هو أنّ يصرّ المسيحيون على “السمات الخاصّة للمجتمع المسيحي أو للمسيحيين ككلّ”، بل وأن يبالغوا فيها (ص 859). بالنسبة لهذا الخيار، كان الحفاظ على تميّز الأقلية أمرًا حاسمًا لاستراتيجية المشاركة السياسية. كان يُنظر إلى الحوار والمزج والمساومة اللازمة للعمل مع “الآخر” على أنّها تهديد وجودي. اعتبر المجتمع نفسه على الدوام ضحيةً. ونتيجة لذلك، فإنّ الحفاظ على نقاء المجتمع وهويّته له الأولويّة على الانخراط في المشاكل التي تواجه المجتمع الأوسع.
على الرغم من أنّ إطار عمل متري أصبح قديمًا إلى حدّ ما، إلّا أنّه يشرح الأنماط التي شكّلت إلى حدّ كبير الانخراط السياسي للمسيحيين العرب حتّى يومنا هذا. توضح النظرة إلى الحرب الأهليّة اللبنانيّة هذين الخيارين جيدًا. الجماعات المسيحيّة التي قاتلت من أجل لبنان المسيحي – لا بل الماروني – باتباع النمط الثاني لمتري، وُصفت بالميليشيات اليمينيّة، وهي موجودة الآن كأحزاب سياسيّة. أما الآخرون الذين استمروا في الضغط من أجل نموذج قومي عربي أو سوري، فقد اعتُبروا أحزابًا يساريّة. لا يزال التوتر بين هاتين الرؤيتين للبنان على قيد الحياة إلى حدّ كبير اليوم.
لقد لعب القادة الدينيون ورجال الدين المسيحيون في العالم العربي، ولا سيّما في لبنان، ولا يزالون يلعبون دورًا مركزيًا في تشجيع أي من هذه الأيديولوجيات. في الأشهر الأخيرة، على سبيل المثال، أعرب قادة الكنائس اللبنانية عن قلقهم البالغ إزاء تقسيم لبنان وتفككه.
لطالما وجّه المطران إلياس عوده من الكنيسة الأرثوذكسيّة انتقادات لاذعة بالإضافة إلى دعمه القوي لإدانته الصريحة لسيطرة حزب الله على لبنان. خلال قدّاس عيد الفصح الشهر الماضي، وبطريقة تذكّر بأنبياء العهد القديم، اتهم النخبة السياسيّة بأكملها بالمخاطرة “بالقليل المتبقي من [لبنان] من أجل تأمين مصالحهم والحفاظ على مكاسبهم والاستمرار في مواقعهم على حساب الوطن والمواطنين”. وبذلك، يسمع المرء صدى خيار “القومية” الذي طرحه متري، ولكن مع إدراج قضايا العدالة الاجتماعيّة التي تمسّ جميع اللبنانيين.
بطريقة مماثلة في آب (أغسطس) الماضي، اقترحت شخصيّة دينيّة بارزة أخرى، البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، مفهوم “الحياد” السياسي كحلّ للأزمة السياسيّة الحاليّة في لبنان. وفي 27 شباط (فبراير) 2021، تمّ تنظيم مسيرة كبيرة لإظهار الدعم لقضيته بالحياد. يعكس هذا التطوّر الأكثر تقدمية لخيار متري الثاني توترًا واضحًا بين محاولة إنقاذ المميّز المسيحي من الانحلال في الهويّة الاجتماعيّة الإسلاميّة الأوسع، مع تجنّب الخطاب القومي المسيحي.
يمثّل كلّ من الراعي وعودة أنماطًا جديدة من المشاركة السياسيّة المسيحيّة، التي تختلف نوعًا ما عن إطار عمل متري. لكن لا تخطئ الظن، على الرغم من أنّهما وغيرهما من القادة الدينيين يبذلون جهودًا جبّارة لمناشدة شباب ثورة 17 تشرين (أكتوبر) 2019، الذين كان العديد منهم يضغطون من أجل تهميش الدين عن الشؤون السياسية، إلّا أنّ الأمر لن يستغرق الكثير القادة الدينيين من جميع المعتقدات لإعادة التوفيق مع الأنماط القديمة. غير أنّ كلماتهم تظلّ حزبيّة، وبالتالي تعكس الإغراء الخفي للسلطة والنفوذ السياسية.
إذًا، هل من الممكن حتّى مقاربة الدين والإيمان في السياسة بطريقة مختلفة؟ تذكّرنا هذه الأمثلة السياقيّة بأنّه لا يوجد نهج “كتابي” سهل لمعرفة ما إذا كان يمكننا الانخراط سياسيًا وكيفية القيام بذلك. من الناحية التاريخية، ثمة أمر واحد واضح للغاية. كلّ شيء يتغيّر عندما تحصل الأديان على امتياز سياسي وسلطة. إنّ إغواء القوة السياسيّة والسلطة يشكّلان ويغيران معتقداتنا وممارساتنا. إنّه إغواء خطير. غالبًا ما تؤدي عواقب اكتساب الامتياز والسلطة إلى تهميش الآخرين. حتمًا، هذه هي الطريقة التي تعمل بها ألعاب السلطة السياسيّة.
في كتابها الجديد The Liturgy of Politics، تستكشف كايتلين سكيس كيف تشكّلنا ممارسات تشكيلنا الروحي سياسيًا، وكذلك كيف تشكّل مشاركتُنا السياسية روحيًا. في كثير من الأحيان، نتعامل مع التشكيل الروحي والمشاركة السياسية على أنّهما أمران منفصلان. نعتبرهما مجالين غير مرتبطين في الغالب، أحدهما مخصّص للروحانية والآخر للأرض. غير أنّ الاثنين مرتبطان. عند توضيح هذه النقطة، تلتقط سكيس ما جادل به بارت منذ أكثر من 80 عامًا عندما كتب: “لا يمكن أن تتمتّع [الكنيسة] بحياة داخلية دون أن تتمتّع في الوقت نفسه بحياة تعبّر عن نفسها خارجيًا أيضًا. لا تستطيع أن تسمع ربّها ولا تسمع أنين الخليقة وتنهدات اليهود والأمم الذين لا يزالون بعيدين عنه ومع ذلك ينتمون إليه بالفعل “(1939).
الفكرة التي يشير إليها سكيس وبارت هي أنّه لا يمكنك أن تحب قريبك دون أن تكون سياسيًا. وستشكّل سياستك حتماً الطريقة التي تحب بها (أو ترفض أن تحب بها) قريبك. تتطلب هذه العلاقة التبادلية مزيدًا من التلمذة السياسية المدروسة، لأنّه كما تجادل سكيس، “لاهوتنا المعاش له انعكاسات سياسيّة” (ص 15).
ربّما في كثير من الأحيان، شاركنا في الحزبيّة السياسية ولكنّنا لم نفكّر في كيفية تأثير الأخبار السارة عن يسوع على مشاركتنا في الأنشطة السياسيّة. تختلف المشاركة السياسيّة عن التحزب السياسي والولاء لقضيّة حزب أو زعيم معيّن.
إذا تمّ تشكيلنا روحيًا من خلال عاداتنا وممارساتنا “السياسيّة” اليوميّة، كما تجادل سكيس، فإنّ السؤال الذي يجب علينا مراعاته فيما يتعلّق بانخراطنا السياسي لا يتعلق فقط أو حصريًا بالسياسة “الكبرى”، بل يتعلّق أيضًا بسياسات عاداتنا وممارساتنا الصغيرة المتكرّرة (ص 14).
على سبيل المثال، أين تختار أن تعيش؟ أين تختار أن تتسوّق؟ ما هي الطرق التي تسلكها، وما هي المناطق التي يجب تجنّبها؟ على من تعتمد للحصول على المساعدة؟ كيف تتفاعل مع المتسوّل الذي يدقّ على نافذتك عند الإشارة الحمراء أو يشدّ يدك أثناء السير على الرصيف؟ كل هذه الأنشطة، إن لم تكن دائمًا أعمالًا سياسية في حد ذاتها، تبقى مسيّسة. إنّها “سياسيّة” لأنها تتعلّق وتتشكّل بالسلطة والمكانة.
بالنسبة للمسيحيين، فإن دفن رؤوسنا في الرمال عندما يتعلّق الأمر بالسياسة ليس خيارًا. لأنّ كلّ ما نقوم به له انعكاسات سياسيّة. إذا أردنا أن نحب قريبنا كما يدعونا المسيح، فلا يمكننا تجنّب السياسة.
إذًا، جزء مهم من دعوتنا هو “الانخراط في السياسة”. بالنسبة للبعض، سيأخذ هذا شكل وظيفة سياسيّة نشطة. بالنسبة للآخرين، ستتخذ على الأقل شكل وعي عالٍ بالانعكاسات السياسيّة لعاداتنا وممارساتنا اليوميّة. في كلتا الحالتين، سنشارك في خدمة المسيح المستمرة، من خلال قوة الروح القدس وحضوره.
مع ممارسة المسيح باعتبارها بياننا السياسي، يجب أن يرفض انخراطنا في السياسة الولاء لأي أجندة حزبيّة. بدلاً من ذلك، يجب أن يتشكّل انخراطنا من خلال علاقة المسيح الخاصة بالسلطة، فهو أخلى نفسه من الامتياز الإلهي واستخدم قوته وسلطته لمنفعة من هم خارجها. وقد شمل المهمشين. شفى المنكسرين. أقام الموتى. مات ذبيحة من أجل الضال. وكلماته التي تقيم الموتى لها القدرة على تغيير الناس والمجتمع والعالم.
بالنسبة لأتباع المسيح، فإنّ التسلسل الهرمي للسلطة أمر بالغ الأهميّة. كلمات المسيح وممارساته هي لتشكيلنا وتشكيل انخراطنا السياسي في العالم. كلمات المسيح وطريقة عمله تتحدى كلّ ولاء آخر.
مرتان هو أستاذ مشارك في الدراسات الإسلاميّة في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة ويدير مجموعة الأبحاث التي تم إطلاقها مؤخرًا Action Research Associates. كالب محاضر في اللاهوت التاريخي في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة.
المصادر: