بقلم نبيل حبيبي
بعند كتابة هذه المدونة سيكون قد تمّ إعطاء أكثر من مليارَي جرعة من لقاحات كورونا حول العالم. وفيما تستمرعملية التلقيح الواسعة بإثبات فعاليتها، نستمر بسماع مخاوف من اللقاحات يتردّد صداها عبر وسائل التواصل المتنوعة.
قد تكون بعض هذه المخاوف عاقلة ومنطقية ومتوقعة، ولكن البعض الآخر غير منطقي. من الطبيعي أن نسأل عن التأثيرات الجانبية القصيرة والطويلة الأمد للقاحات الجديدة. ولكن رأيت عددًا لا بأس به من أصدقائي المسيحيين يعبّرون عن مخاوفهم بأن تحتوي اللقاحات الجديدة على “علامة الوحش” المذكورة في سفر رؤيا يوحنا.
بكلّ بساطة، يمكن تلخيص هذا الخوف على النحو التالي: تحتوي لقاحات كورونا على رقاقة سريّة معيّنة يتم وضعها في ذراعك. وعند وضع هذه الرقاقة تكون قد تحقّقت نبوّات نهاية الزمان المذكورة في رؤيا حول الخضوع للوحش الأخروي قبل الدينونة الأخيرة.
قد يكون من المغري للاهوتيين أن يرفضوا بكلّ بساطة نظريات على هذا النحو بدون حتّى التعاطي معها، ولكن بما أنّ جزءًا من عائلتنا الإنجيلية مازال يسعى منذ عدّة عقود بغية إيجاد تطبيقات معاصرة لنبوات الرؤيا وصورها، وبما أنّ هذا الفكر الذي ذكرته آنفًا فيما يخصّ اللقاح يجد موطئ قدم في الكنائس الإنجيليّة العربيّة، أرى نفسي مدفوعًا لكتابة ردّ مبني على اللاهوت الكتابي. أعتقد أنّ هذا الربط بين اللقاح وعلامة الوحش تشوبه شوائب عميقة على المستويين الكتابي/البيبلي واللاهوتي/المنطقي.
يتفق معظم العلماء أنّ سفر الرؤيا قد كُتِب في تسعينيات القرن الأوّل ميلادي حين كانت عبادة الإمبراطور تزداد انتشارًا في مقاطعة آسيا الرومانية (تركيا في يومنا)، وكان الإمبراطور دوميتيان يطلب عبادته. ما قاد إلى اضطهاد كلّ الأنظمة الدينيّة التي رفضت عبادة الإمبراطور، من ضمنها المسيحيّة، ولا سيّما كنائس آسيا الصغرى التي يكتب إليها يوحنا رسائله.
سفر الرؤيا خليط من نبوّات على شبه تلك الموجودة في العهد القديم والنوع الأدبي الرؤيوي. إذًا، على شاكلة سفر دانيال، يحتوي سفر الرؤيا على مجموعة من الرؤى التي يرويها المتكلم. وينتقل السفر من المقدّمة إلى رسائل إلى الكنائس السبع في آسيا الصغرى (إصحاحات 1-3)، إلى مجموعة من ثلاثة رؤى وكلّ رؤية منها تحتوي على سبع ضربات دينونة (سبعة ختوم وأبواق وجامات؛ إصحاحات 4-16)، إلى وحي ضد روما (بابل) (إصحاحات 17-19)، وأخيرا إلى نبوّات عن نهاية الزمان ومجيء المسيح الثاني (إصحاحات 19-22).
بما أنّ سفر الرؤيا أدب رؤيوي فهو يحتوي على رموز وأرقام. من المفصلي أن نعي أنّه لا بدّ أنّ هذه الرموز والأرقام كانت مفهومة لكنيسة القرن الأول (يوحنّا يقول بوضوج في 1: 4 و1: 1 أنّه يكتب لكنائس من القرن الأوّل في آسيا الصغرى). إذًا، مفتاح أيّ تفسير صحيح للصور الموجودة في رؤيا يكمن في فهم أوّلًا معنى هذه الصور في سياقها الأدبي وضمن جمهور الكنيسة الأولى، ومن ثمّ الانتقال لفهم تضميناتها للكنيسة اليوم.
عبارة “سمة (علامة) الوحش” ترد سبع مرّات في رؤيا يوحنا (13: 16، 17؛ 14: 9، 11؛ 16: 2؛ 19: 20؛ 20: 4). وفي كلّ ذكر لها يتم ربطها مع فكرة “السجود (العبادة) للوحش.” لا نمتلك المساحة لتحليل كلّ المقاطع ولكن مثل واحد يكفي كونه يمثّل باقي المقاطع. اقرأوا معي هذه الكلمات المشجّعة والتي تتحدّانا في 20: 4-6:
4ورأيتُ عُروشًا فجَلَسوا علَيها، وأُعطوا حُكمًا. ورأيتُ نُفوسَ الّذينَ قُتِلوا مِنْ أجلِ شَهادَةِ يَسوعَ ومِنْ أجلِ كلِمَةِ اللهِ، والّذينَ لَمْ يَسجُدوا للوَحشِ ولا لصورَتِهِ، ولَمْ يَقبَلوا السِّمَةَ علَى جِباهِهِمْ وعلَى أيديهِمْ، فعاشوا ومَلكوا مع المَسيحِ ألفَ سنَةٍ. 5وأمّا بَقيَّةُ الأمواتِ فلَمْ تعِشْ حتَّى تتِمَّ الألفُ السَّنَةِ. هذِهِ هي القيامَةُ الأولَى. 6مُبارَكٌ ومُقَدَّسٌ مَنْ لهُ نَصيبٌ في القيامَةِ الأولَى. هؤُلاءِ ليس للموتِ الثّاني سُلطانٌ علَيهِمْ، بل سيكونونَ كهَنَةً للهِ والمَسيحِ، وسَيَملِكونَ معهُ ألفَ سنَةٍ.
لا بدّ أنّ شخصية الوحش هذه كانت لها معنى خاص للقرّاء الأوّلين للكتاب. لذا قد تشير تشير إلى الإمبراطوريّة الرومانيّة أو الإمبراطور دوميتيان. يرى بعض المفسرّين أنّ الوحش يشير لكلّ ممالك الأرض عبر التاريخ البشري. ويرى آخرون أنّ الوحش يشير إلى زعيم سياسي مستقبلي سيكون ضدّ المسيح. ولكن أعتقد أن هدف هذه المدونة لا يتضمّن مناقشة هويّة الوحش.
المهم لنا هو ملاحظة أنّ الوحش يضطهد أتباع المسيح (الذين قُتلوا)، ويأتي هذا الاضطهاد من رفض الكنيسة السجود للوحش. بل يختار أتباع المسيح أن يُظهروا ولائهم للمسيح ولو تعرّضوا لضغوطات مميتة بدل أن يسجدوا للشر. نرى هذه الصورة على نحوٍ متكرّر في كلّ مرّة يتم ذكر الوحش وسمته في سفر الرؤيا.
إذًا، رسالة سفر الرؤيا للكنيسة المضطهَدة في القرن الأوّل واضحة للعيان: يجب أن يكون المسيحيون على استعداد لمواجهة الموت من أجل أمانتهم لربوبية المسيح ورفضهم لأوثان العالم. عودة المسيح ستجلب مكافأة وعدلًا. وحتّى لو اعتبرت أنّ الوحش شخصيّة مستقبليّة أو مسؤولًا سياسيًا معاصرًا، لا نحارب الوحش من خلال رفض اللقاحات والتفتيش عن رقم 666 في الأدوية والمستلزمات الطبيّة. بل نرفض عبادة الوحش ونرفض سمته من خلال إعلاننا أنّ المسيح هو ربّ. ونعلن ربوبية المسيح من خلال طاعتنا له بوجه الاضطهاد ومقاومتنا لإمبراطوريات عصرنا.
ولكن حتّى على مستوى لاهوتي/منطقي، أيّ حتّى ولو لم نقرأ حتّى سفر الرؤيا ولا نفهم سياقه، ماذا يقول هذا الخوف من سمة الوحش في اللقاحات عن إلهنا الذي نعبده؟ من هو هذا الإله الذي يقبلنا ويقودنا لحياة الطاعة والخدمة وثم يرفضنا ويعتبرنا أعداءه ويرمينا في النار لأنّنا بدون علم وضعنا رقاقة ذكيّة في جسدنا؟ ما هو هذا الخلاص الذي تخسره إذا أخذت لقاحًا في ذراعك؟ هذا يتناقض مع الأسفار المقدّسة من تكوين حتّى رؤيا، ويتناقض مع حياة المسيح وشخصه وتعاليمه وعمل كلمة الله المعلن عنها، يسوع المسيح ربّنا المقام!
لو رأتنا الكنائس التي كتب لها يوحنا نفتش عن أرقام سريّة ونحارب اللقاحات العلميّة، لأصيبوا بالصدمة وأنّبونا قائلين، “مسيحينا كانت الموت للمسيح بفرح.” ومسيحيّة ملايين من أتباع يسوع في العالم العربي وخارجه هي الموت للمسيح، خدمة الفقراء والمهمّشين، والالتزام بعيش حياة متواضعة وأمينة في عالم خاطئ ومهووس بالسلطة. ولكن مسيحيّة تفتّش عن مؤامرات علميّة تُحاك ضدّها لا تشبه مسيحيّة العهد الجديد بأي طريقة أو شكلٍ من الأشكال.
يا ليت نقاشاتنا الكنسيّة في هذه الأوقات العصيبة تدور حول الرجاء بدل الخوف. كيف يؤثّر إيماننا بمخلّص مقام على طريقة تعاطينا مع الموت؟ هل نختبئ خوفًا من مؤامرات خياليّة أم نقود الدعوة لللقاحات والحياة؟ لماذا لا نقدّم أجسادنا برضى للاختبارات على أمل حدوث اكتشافات وفرص لإنقاذ حياة الناس؟ لماذا لا نفتح كنائسنا وبيوتنا للعناية بالمرضى؟
“لا تخَفْ، أنا هو الأوَّلُ والآخِرُ، والحَيُّ. وكُنتُ مَيتًا، وها أنا حَيٌّ إلَى أبدِ الآبِدينَ! آمينَ. ولي مَفاتيحُ الهاويَةِ والموتِ” (رؤيا 1: 17-18)
مجدًا لله الآن وإلى دهر الدهور.
في الوقت الذي لا يحاضر نبيل في دراسات العهد الجديد في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، يكون منشغلًا بالمشاركة في المناصرة السياسية، وخدمة الشبيبة في كنيسته، واللعب مع ولديه الظريفين وزوجته الرائعة.