بقلم ربيع الحصباني
من أرضي أصرخ كالتائه الغريب
ولا من يسمع صوتي من قاصٍ وقريب
أصرخ بصوت شعبي الجائع المسكين
الذي بات قوتُه الهمَّ والأنين
في حين تعيّن عليّ كتابة منشور للمدوّنة هذا الأسبوع، احترت أيّ موضوع راهن يجب أن أعالجه في كتابتي. فمواضيع الساعة في لبنان كثيرة، إحدى القضايا هي أزمة الشحّ في الوقود. يتعيّن على الناس في لبنان الانتظار لساعات في طوابير تمتدّ مئات الأمتار للحصول على الكميّة القليلة المسموح بها من مادة البنزين. وشحّ الوقود أدّى بطبيعة الحال إلى ازدياد ساعات انقطاع التيّار الكهربائي وانقطاع شبكة الإنترنت.
ثمة موضوع ملحّ آخر وهو انقطاع الكثير من الأدوية في الصيدليات والمستشفيات ما يترك بعض المرضى يواجهون خطر الموت الذي يمكن تفاديه. حتّى بعض المواد الغذائيّة في لبنان غير متوفّرة مثل حليب الأطفال أو موجودة فقط في السوق السوداء. أمّا البضاعة القليلة الموجودة في المحلات التجاريّة فقد تضاعف سعرها. وفقًا للبنك الدولي سعر لحوم الأبقار الطازجة أو المجمّدة في لبنان ارتفع بنسبة تزيد عن 110 في المئة بين 14 شباط/ فبراير 2020 و10 أيار/ مايو 2021، وهي الزيادة الأعلى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ 29 سنة.
ربّما يمكننا أن نسمّي هذه المرحلة التي يمرّ بها شعب لبنان بانتزاع الملكيّة. وفقًا لقاموس أكسفورد انتزاع الملكيّة هو حرمان شخص ما من الأرض أو المال أو الممتلكات الأخرى. وهذا ما يحدث في لبنان. ففي سلسلة إجراءات اتخذها المصارف اللبنانية بإيعازِ من مصرف لبنان تمّ الحجز على حسابات المودعين بالدولار وذلك منذ حوالي سنتين. فإنّ الارتفاع بسعر الدولار مقابل الليرة أفقد العملة الوطنيّة أكثر من ٩0% من قيمتها. ونتيجة لذلك يختبر لبنان أزمة تضخم لم يسبق لها أيّ مثيل ما يجعل الجميع في حالة إفلاس عام. ووفقًا لتقارير البنك الدولي، فقد بات لبنان من أشد ثلاث أزمات اقتصاديّة في العالم منذ عام 1850!
انتُزعت ملكية اللبنانيين ليس من دولة محتلّة أو عدوّ غريب بل من دولتهم الخاصّة، من الحكّام والزعماء السياسيين الذين بسبب مطامعهم وفسادهم وسوء إدارتهم تجرّد اللبناني من ملكيته وحقّة بالوصول إلى الموارد من الطاقة الكهربائية، والمواد الغذائيّة والوقود وغيرها من مستلزمات العيش الكريم. وبذلك بات اللبناني غريب في بلده، مسبي إلى بلده. بات اللبناني من دون وطنٍ في وطنه.
لقد تأمّل زملائي عبر مدوّنة معهد دراسات الشرق الأوسط بالوضع اللبناني ومقاربة الكنيسة لهذا الوضع وكيفية الانخراط فيه. أقدّر كلّ ما كُتب لا بل أثني عليه وأدعو إلى ممارسته. غير أنّني اليوم، كمؤمن لبناني، خارت قواه أمام هذه التحدّيات الكبيرة أردت أن أنظر إلى الرّب وأناجيه وأعلن عظمته وسط الصعاب وقدرته في خضم التحديات وعنايته في الشدائد.
في الكثير من الأحيان، في زمن الأزمات نقدّم عظات حول ما يجب أن نفعل أو ألا نفعل. وقد ننشغل أحيانًا في التطبيقات العمليّة لاستجابة الكنيسة. وكجسد المسيح على الأرض لا بدّ أن نُشابه المسيح في الاستجابة للأزمات. فيسوع شفى وأطعم وأقام موتى ولكنّه قبل كلّ شيء كان يمضي وقتًا مع الآب. فلا بدّ لنا نحن أيضًا أن نذهب إلى الآب أولًا لنستمدّ منه قوةً ونتذكّر من هو إلهنا.
أتأمّل في موقف داود في المزامير حين كان يواجه الصعاب والأعداء فينظر إلى الله ويسبّحه. لم تكن تتغيّر الظروف بل داود هو الذي كان يتغيّر. كان يرثي حاله وفي الوقت نفسه يذكر ويعلن أمانة إلهه. من المهم أن ننظر إلى الله كي نرى الأمور من منظوره وليس من منظورنا البشري. اليوم أريد أن أعبده، أن أسبّحه وأعلّي اسمه فوق أزمة لبنان. وأدعوكم أن تنضموا إليّ بروح الصلاة في هذه القصيدة.
من أرضي أصرخ كالتائه الغريب
ولا من يسمع صوتي من قاصٍ وقريب
أصرخ بصوت شعبي الجائع المسكين
الذي بات قوتُه الهمَّ والأنين
العامل خسر عيشه والنصيب
رازحًا تحت وطأة الدَين كئيب
والأم تبكي من حرقة الحنين
على ضنًّى لن ترى وجهه بعد سنين
أطفال أمسوا بلا غدٍ منير
والشباب حلمهم أصبح نير
أباء لم يعد لدائهم دواء
ورضّعٌ من دون شبعٍ وارتواء
البواخر أنزلت آخر الذخير
فبتنا بالشموع نستنير
شوارعنا حالكة بلا أضواء
وحالنا كزورق أغرقته الأنواء
وماذا بعد؟
هل نستغيث بالساسة ورجال الدين
وهم من رسموا لبنان الجريح والمَدين
فقد أغلقوا نوافذ الأمل
ومن أموالنا غناهم اكتمل
هل نبقى كالجريح المسكين
ننزف الدمّ من طعنة السكين
فغدرهم لم يعد يُحتمَل
وقد خانوا الوطن بالقول والعمل
في الدنيا لم يعد لنا ملاذ
المال والجاه قد بلغ النفاذ
لسان حالنا أن نجد الأمان
في بلدٍ نهشه الحرمان
صار الفرح مجرد رذاذ
وللحزن موضوع استحواذ
الضحك بات طي الكتمان
فلمن نشكو وطأة هذا الزمان
هو سامع قهري ومذلتي
وآتيه بحال شعبي وأمتي
فقد خسرنا وطننا في الوطن
ورضينا بحكم الطائفة والفتن
يا ربّ أتيك بوجعي وغصتي
ودمع العين غطّى وجنتي
فقد خيّم الحزن عندنا وقَطَن
حتّى الجاهل بفقره فطَن
وأنت العالي لا يدنوك تغيير
مهما الناس ألقوا علينا التعيير
في العلى عرش مجدك سرمدي
وإلى الدهر باقٍ ملكك الأبدي
نصرخ لك أنت وحدك القدير
وعن عملك يعجز اللسان عن التعبير
في القفر كنت دائمًا سندي
وفي الضيقات لم تتركني وحدي
يا رب أنت صاحب السدّة والسلطان
ولا تميل أذنك عن تضرعات الإنسان
ترأف على شعبي التائه العنيد
وامنحنا نعمة خلاصك العتيد
في البعد عنك لا نعرف معنى الأمان
وفي حضنك الدافئ ننعم بلمسة الحنان
أشركنا في نعمة عهدك الجديد
واجعلنا نحيا معك أيام عمرنا المديد
يا رب في وطننا لا مال ولا حاكم ولا محكوم
ففي السلطة دائمًا هناك ظالم ومظلوم
فكيف لنا أن نسأل ماذا بعد؟
وأنت حافظ العهد والوعد.
لو لم يكن ربيع مترجمًا ومسؤول برنامج الشهادة في الخدمة في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، كان ليكون مهندسًا معماريًا يصمّم المباني بأسلوب أنيق.