بقلم وليد زيلع
تشرّفت بدعوتي منذ عامين للخدمة كراعٍ لكنيسة محليّة. بدوري الجديد نسبيًا، أواجه دائمًا السؤال حول العلاقات والشبكات والشراكات (لا سيّما مع الغرب) لدرجة أنّني اعتقدت للحظة وجيزة أنّ هذا يجب أن يكون ميزة أساسيّة لراعي القرن الحادي والعشرين. شعرت أيضًا أنّه ما لم أقم عن قصد بزيادة اتصالاتي الشخصية، وجمع الدعم، والشراكة مع الكنائس والمنظّمات الغربيّة، فإنّ الكنيسة التي أخدمها ستكون خافتةً في نشاطها وبطيئة في نموّها.
لا شكّ أنّ كثيرين حولنا يمرّون بعملية إعادة هيكلة غريبة، إن لم تكن مؤلمة، بسبب العديد من المتغيّرات على الصعيدين المحلي والعالمي. وينطبق هذا أيضًا على الكنيسة التي تشهد أشكالًا مختلفة من التغيير، وسأتأمّل في أحدها في هذا المنشور. على مدى العقد المنصرم، بات شائعًا إعادة هيكلة الكنائس لتتحوّل إلى مؤسّسات أعمال تجاريّة من حيث القيادة والهيكلية والتمويل والبرامج. في هذا التأمّل، سوف أشارككم ما أتعلمه في مسيرتي وأنا أنظر إلى يسوع، الكنيسة الأولى، والرسول بولس في إرساليتهم للكرازة بالإنجيل، وهدفي بالتحديد النظر في النهج الذي اتبعوه.
نظرت إلى يسوع وكيفية بدء خدمته، أي كيفية إنشاء الشركة في لغة الأعمال التجارية اليوم. كان لدى يسوع استراتيجية، وفريق، وخطة، وجعبة نقود (تمويل). ووفقًا لفهمي المعاصر، كان لديه كلّ المتطلبات لتنفيذ رؤيته بنجاح. ولكن بدلاً من الترويج لرؤيته لدعم قضيته، ظلّ مستترًا؛ بدلاً من جمع الأموال لتوسيع حصّته في السوق، استبعد المال من المعادلة؛ وبدلاً من الشراكة مع السلطات المحلية، تحدّاهم بحضوره النبوي.
على الرغم من أنّه، وفقًا لذهنية العصر الحديث، احتاج يسوع إلى جميع الوسائل الممكنة لتعزيز مفهومه الجديد لملكوت الله، إلّا أنّ نهجه كان خاليًا من مفهوم القرن الحادي والعشرين لكيفية بدء مشروع ناجح وقيادته.
الفرق بين يسوع وبيننا، كما أراه، يكمن في فن توجيه تركيزنا. في حين أنّ هدفنا النهائي المعلن اليوم قد يكون الكرازة بالإنجيل، فإنّ التركيز ينصب في الغالب على برامجنا وأنشطتنا وميزانيتنا وموظفينا الذين بدوام كامل والنشرات الدوريّة والإنجازات السنوية إلى حدّ أنّ الهدف الرئيس للكنيسة قد فُقِد في تفاصيل العمليات اليوميّة.
يمكن للمرء، أن يجادل بأنّ الكنيسة قد تحافظ على قدسيتها التنظيمية لصالح إرساليتها الكبرى وهذا صحيح. غير أنّ الخطر هو في بعض الأحيان في عملية “المحافظة” نفسها، والتي تستحوذ على كلّ اهتمامنا فيما طموحاتنا المتزايدة قد تحيدنا عن الهدف الأساسي لوجودنا.
بعد ذلك نظرت إلى الكنيسة الحديثة الولادة في أعمال الرسل، وتأملت في وصف لوقا البسيط والجميل: “وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ، وَالشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ الْخُبْزِ، وَالصَّلَوَاتِ…. وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا. وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ، كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ. وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي الْهَيْكَلِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ الْخُبْزَ فِي الْبُيُوتِ، كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ، مُسَبِّحِينَ اللهَ، وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لَدَى جَمِيعِ الشَّعْبِ. وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ” (أعمال 2: 42 – 47). قراءتي لهذه الكلمات من وجهة نظر اليوم تفيد أنّ الكنيسة الأولى لم تكن تصب اهتمامها داخليًا في تطوير شتّى أشكال الهيكليات المؤسسيّة بل كانت مكرّسة بشغف لتشكيل جماعة للمؤمنين كان بالنسبة لهم سبب كلّ نمو ويزيد عددهم يومًا تلو الآخر. وفي الإطار نفسه، بعد رسم هذه الصورة، يقدّم لنا لوقا ما لم يفعله بطرس ويوحنا للرجل الأعرج عند باب الهيكل (أعمال الرسل 3: 1-10). لم يعطوه أي صدقة استجابة لطلبه؛ لم يطلبوا أي مساعدة طبيّة له؛ لم يستخدموا علاقاتهم للعثور على وظيفة له؛ ولم يذكروه في تقريرهم السنوي بعد أن شُفي. صلّوا ومجّدوا الله الذي شفاه.
الفكرة ليست الفصل بين العمل الاجتماعي والروحي. لو استجاب بطرس ويوحنا على نحوٍ مختلف لتلبية احتياجات الرجل كما نفعل جميعًا اليوم، لكان هناك بركة. أعتقد أنّ الله يعمل من خلال كنيسته في مجتمعها المحلي. السؤال الذي أفكّر فيه هو العلاقة بين النمو والتمويل. هل ستنمو الكنيسة التي أخدمها بفضل الله (كما الكنيسة الأولى) أم التمويل (كما هو الحال مع بعض الكنائس الحديثة) أم كليهما؟ هل سينمّي الله الكنيسة إذا لم أستغل كراعٍ، كلّ فرصة لأقنع آخرين برؤيتي وأطوّر علاقاتي الشخصية وأجمع الأموال؟ ماذا عن التوقيت: هل تنتقل الكنيسة إلى الخدمة قبل (كما هو الحال مع بطرس ويوحنا للرجل الأعرج) أو بعد (عقلية العمل التجاري) تأمين الأموال اللازمة؟
من ثمّ بين قضبان نافذة السجن الصغيرة والصدئة، ألقيت نظرة خاطفة على بولس في زنزانته بينما كان يكتب لأصدقائه في فيلبي. أعرب بولس في رسالته عن امتنانه للتبرعات التي قدّموها لدعمه وطلب منهم عدم إرسال المزيد من الأموال لأنّه ليس بحاجة لها. أعلن بولس في سجنه سرّ الحياة المسيحيّة، وهو سرّ يتم تجاهله في أغلب الأحيان في الميدان الكنسي اليوم. لقد كتب إلى أهل فيلبي ولنا قائلاً: “ليسَ أَنِّي أَقُولُ مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجٍ، فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ. أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ. أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي” (فيلبي 4: 11 – 13). هذا الفكر من بولس العظيم غريب عن الاتجاه الكنسي المعاصر. على الأرجح كان ليكون من الطبيعي بالنسبة لي اليوم لو سمعت الحجّة التالية من بولس: لتدعمني كنائسي – تلك التي أسستها “أنا” – وشعبي – هؤلاء الذين ربحتهم “أنا” للمسيح – لتنفيذ رؤيتي وزيادة برامجي فيما “أنا” أخدم الله وأعرّض حياتي للخطر. دع الخدمات التي أطلقتها تُدعى باسمي خدمات بولس الدوليّة لمجد الله وملكوته.
وفي الختام، نظرت إلى القصّة الشاملة لمحبة الله كما تتجلّى في الكتاب المقدس. منذ إبراهيم وحتّى الرسول بولس، كانت المسؤوليّة الأساسيّة لشعب الله هي إظهار حضور الله في خليقته. يصف العهد القديم شعب الله بأنّهم مملكة كهنة وأمّة مقدّسة. أمّة تختلف عن الأمم حولها، وكانت إرساليتهم تقديم معرفة الله الحي إلى بقية العالم من خلال طاعتهم للناموس. هذا يعني أنّ الأمم احتاجت إلى تعلّم طرق الربّ الحي من خلال شعبه وليس العكس. لم يكن من المفترض أن يتعلّم شعب الله ويطبّق طرق توسع الأمم واستراتيجياتهم. في اللحظة التي تخلّوا فيها عن تميزهم ورغبوا في ملك يحكمهم كسائر الأمم، ساوموا على قداستهم. لقد كانت نقطة تحوّل في تاريخ الشعب بمجرّد أن أعلنوا: “فَنَكُونُ نَحْنُ أَيْضًا مِثْلَ سَائِرِ الشُّعُوبِ، وَيَقْضِي لَنَا مَلِكُنَا وَيَخْرُجُ أَمَامَنَا وَيُحَارِبُ حُرُوبَنَا” (1 صموئيل 8: 10).
يستمر العهد الجديد بالروح والفهم نفسهما لما يعنيه أن يكون المرء من شعب الله. إنّ كنيسة العهد الجديد هي كنيسة منظّمة تحكمها المبادئ والممارسات الكتابية وليس وفقًا لمبادئ صناعة الشركات التجاريّة.
هذه ليست دعوة للتراجع والعزلة. إنّما سؤال عن دافعنا: ما هي القوة الدافعة وراء الكنيسة اليوم؟
إنّني أتطلّع إلى سماع وجهات نظر أخرى ومناقشة ذلك على نحو أوسع في مؤتمر الشرق الأوسط 2021 في 30 أيلول/سبتمبر و1 و2 تشرين الأوّل/أكتوبر، والذي سيتطرّق إلى بعض هذه القضايا.
وليد هو العميد الأكاديمي في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة وراعي جماعة إيمان رائعة تلتقي في المنصورية.
2 Comments
مقالة مفيدة جدا تستحق منا التفكير والتأمل بالموضوع أكثر. شكرا لكاتبها.
شكرًا أخي الحبيب أنطوان على التعليق. الرب يباركك