بقلم كالب هتشرسون
الآراء والخلاصات الواردة في هذا المنشور تمثّل رأي الكاتب ولا تمثّل آراء كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة.
أتساءل ما إذا كانت هذه هي السنة التي يمكننا أن نتوقّف فيها أخيرًا عن تمجيد البقاء في لبنان واعتبار مغادرته الوضع المثالي. لقد عشت وعائلتي 13 عامًا في لبنان، ولطالما كانت مسألة الهجرة حاضرة في أذهان الناس. وكما عبّرت الصحافيّة اللبنانيّة زهرة حنكير مؤخرًا، “حبّ لبنان شيء. العيش هناك شيء آخر.” غير أنّ هذه الكلمات باتت حقيقة واقعيّة صعبة لأيّ شخص يعيش في لبنان هذه الأيام.
تساهم الأزمات المتعدّدة في انهيار أبسط الخدمات في لبنان حتّى، ما يجعل من الصعب على الكثيرين العيش والعمل وإعالة أنفسهم وأسرهم. في المقابل، يُعبّر أشخاص مثل الناطور (حارس المبنى) والشباب الذين يعملون في جناح الخضروات وأصدقاء العائلة الأعزاء عن إلحاح شديد للتحرك والاستقرار في مكان ما وفي أي مكان آخر. الناس يائسون. إنّ الشعور بأنّك لم تعد “في وطنك” قد يقود إلى موجة الهجرة السادسة في لبنان منذ أواخر القرن التاسع عشر.
بالنسبة للمسيحيين في العالم العربي، تثير الهجرة أسئلة صعبة حول كيفية رؤية الوضع من منظور لاهوتي، وكيفية الاستجابة. يُظهر هذا التأمل اللاهوتي حول البقاء أو المغادرة قلقين مهمين أود النظر إليهما بإيجاز: الوجود والأمانة.
ومع تزامن مغادرة المسيحيين منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كان الكثيرون قلقين من أنّ هجرة المسيحيين ستنهي “وجود” الكنيسة هنا. لا شكّ أنّ اختفاء الكنائس والمجتمعات المسيحيّة المرئية في أجزاء من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يشهد على هذا الاحتمال تاريخيًا. غير أنّ في مناطق أخرى من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، استمرت الكنيسة على الرغم من موجات الهجرة (وربما بسبب). بالإضافة إلى ذلك، نعلم أيضًا أنّ “حركات” جديدة لأتباع يسوع قد ظهرت في أماكن بدا أنّ الكنيسة قد اختفت فيها تقريبًا. لذلك، فإنّ السؤال الوجودي للحضور المسيحي في هذه المنطقة ربما يكون أكثر تعقيدًا مما يعترف به تقليد القلق بشأن نهايته.
غير أنّه ثمة قلق حول الأمانة يرافق سؤال الهجرة. شدّد بعض المسيحيين على فكرة الإرسالية ردًا على سؤال المغادرة أو البقاء. يسعى هذا النهج إلى أهداف أعمق للبقاء. يؤكد هذا النهج أنّ يسوع علّم أنّ الألم هو نتيجة طبيعية لاتباع المسيح في إرساليته في هذا العالم. لذلك، يقول المنطق، لا يجب أن تترك لبنان (أو مصر، السودان، الجزائر، إلخ) لمجرد صعوبة العيش هناك. بل بالأحرى يجب البقاء من أجل خدمة محبة الله للآخرين فهذه هي الاستجابة الأكثر أمانةً. البقاء معادلاً للأمانة. ولكن إذا كان البقاء هو الاستجابة الأمينة، فماذا يفيد ذلك عن المغادرة؟
يكمن الخطر في كلّ هذين القلقين في كيفية قيادة عملية التحليل المحفّز في تأملنا اللاهوتي الذي يجعل البقاء مثالياً، ويمدح أولئك الذين يبقون ويعاير أولئك الذين يغادرون. عند القيام بذلك، فإننا نجازف بتقديس الألم، تمامًا كما فعل الآخرون مع الراحة. يمكن أن يؤدّي تقديسنا للألم (المتصور) إلى الشعور بالبر الذاتي، وهذا هو الجزء الذي كنت أفكّر فيه مؤخرًا.
ما يقلقني هو أنّه في جعل الإرساليّة أو الوجود أولويّة كأساس منطقي لاتخاذ القرار بشأن البقاء أو المغادرة، فإنّنا ننسى التعاطف والرحمة. بالطبع، نحن نتعاطف مع “الآخر” لغرض الشهادة والكرازة. نحن نسارع في الاهتمام بالفقراء والمحتاجين لمشاركة محبة الله معهم. لكن يبدو أنّ التعاطف والرحمة يتبخران عندما يقرّر الأخ أو الأخت مغادرة لبنان لأي سبب غير “الخدمة”، وأحيانًا حتى عندما يغادران لأسباب الخدمة.
في بعض الأحيان أتساءل ماذا لو نظرنا عن كثب إلى حياة أولئك الذين يمكنهم المغادرة ولكن يختارون البقاء، كم منّا يعاني حقًا؟ كم عدد الذين يعيشون في أماكن صعبة بدون كهرباء ولا مولد احتياطي؟ ولا توجد طريقة لتخزين الطعام؟ ولا وقود للطهي أو الذهاب إلى العمل أو اصطحاب الأطفال إلى المدرسة؟
أسأل هذا كصديق هاجر من الولايات المتحدة إلى لبنان. أنا أيضًا لد مخاوف بشأن مغادرة قادة الكنيسة لهذه المنطقة للاستقرار في مكان آخر، بدلاً من الاستمرار في الخدمة في الأماكن الصعبة. أنا شخصيًا وعائلتي نختار البقاء في الوقت الحالي. عمليًا البقاء بدلاً من المغادرة ممكن إذا كان بإمكانك القيام بعملك (أو خدمتك)، وتوفير الدعم لأولئك الذين أنت مسؤول عنهم، والحد من تأثير الصدمة (بأشكالها العديدة) على عائلتك. نحن قادرون على القيام بهذه الأشياء من خلال الشبكات والعلاقات التي توفر ما نحتاج إليه. أعتقد أنّنا بحاجة إلى أن نكون صريحين في كثير من الأحيان، ولكن ليس دائمًا، أولئك الذين يختارون البقاء قادرون على القيام بذلك من خلال إيجاد طرق لعيش حياة مريحة مقبولة. ما مدى اختلاف ذلك الوضع عن أولئك الذين يبحثون عن الراحة والمغزى خارج المنطقة؟
أدركنا أنا وزوجتي أن الخط الأحمر بالنسبة لنا هو أنه إذا اضطر أي منا إلى إيقاف عملنا الخدمتي بغية توفير التعليم لأطفالنا، عندها يجب علينا أن نغادر. قد لا يبدو ذلك روحيًا للآخرين، كسبب “واقعي” للمغادرة. لكن الفكرة التي أريد أن أتناولها هي كيف أنّ أسباب المغادرة شخصية للغاية وغالبًا ما تكون أكثر تعقيدًا مما تبدو للمراقبين الخارجيين.
تتحدّانا هذه المناقشة أن ننظر إلى الهجرة على أنها أحد أعراض الانكسار الاجتماعي وعدم التوازن. استجابةً لانهيار المجتمع، نطيع جميعًا ما وصفه الأكويني بالقانون الطبيعي، والرغبة الأساسية للطبيعة البشرية في عيش السلام. نقوم جميعنا بإجراء حسابات حول أسئلة أساسية مثل “هل يمكننا البقاء هنا؟ هل يمكنني العمل هنا وإطعام عائلتي؟ هل يمكنني أن أعيش حياة كريمة هنا؟ “. نقوم بذلك جنبًا إلى جنب مع واجباتنا الدينية أو تفويضاتنا الإرسالية. وعندما يغيب عن الناس كيفية العيش في سلام في مكان ما، فإنّهم يغادرون. لكن المغادرة، مثل البقاء، لها ثمن. يبادل المرء الصعوبات والصدمات الناتجة عن البقاء بفقدان إحساسه بالمكان والانتماء والعلاقات والذكريات. في كلتا الحالتين، يتألّم الناس.
والأهم من ذلك، أنّ الهجرة منسوجة في قصّة شعب الله في الكتاب المقدّس. في تلك القصّة، يُعتبَر كلّ من الهجرة والنزوح أحداثًا لاهوتية يُظهر الله من خلالها نفسه لشعبه في هجرتهم. حتّى إعلان الله عن نفسه في المسيح يمكن أن يُفهم على أنّه هجرة الله إلى عالم خطيئة البشرية وانكسارها بحيث يمكن استرجاع البشريّة المكسورة بالكامل إلى السلام عندما تنتهي الحدود بين ملكوت الله والإنسانية. من الناحية العمليّة، يستطيع الله أن يستخدم جميع أشكال وأسباب الهجرة من أجل مقاصده الفدائيّة. وهذا أمر نؤمن به.
لهذا السبب أدعو إلى التوقف عن الوجدانيّة في معالجة القرارات الشخصيّة لمسيحيي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالمغادرة أو البقاء. وآمل أن ينمو أتباع يسوع في التعاطف والرحمة المتشبهة بالمسيح تجاه الجميع وسط هذه الموجة الجديدة (القديمة) من الهجرة من لبنان. التعاطف مع أولئك الذين يختارون المغادرة، لعدد لا يحصى من الأسباب التي تدفعهم وتجذبهم بعيدًا. والتعاطف مع من يختار البقاء لأسباب عديدة تجعله يختار ذلك. ولكن المزيد من التعاطف مع أولئك الذين ليس لديهم خيار على الإطلاق. سواء المغادرة أو البقاء، كلاهما خيار صعب وله تكلفة شخصيّة. الاستجابة التي أرى أنّ يسوع يدعونا إليها هي استجابة الرحمة.
كالب هتشرسون محاضر في الدراسات التاريخية واللاهوتية في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة.
2 Comments
شكرا كالب لأنك تجلب صوت متعاطف ورحوم على هذا الجدل المستعر في كتائسنا اليوم. أعتقد أنه من الضروري أن نقوم بهذا الحوار في بيوتنا وكنائسنا وكليات اللاهوت بطريقة منعمة ورحومة.
شخصيا أعتقد أنه بما أن الكنيسة المحلية هي عائلتي الروحية، لذا خياري بالرحيل يجب أن آخذه بالصلاة والمشورة مع كنيستي. فرحيلي عن كنسيتي المحلية سيكون له تأثيرات سلبية وصعبة على عائلتي الروحية. بنفس الوقت الله يعمل في شعبه وبالرغم من شعبه في كل الظروف والأمكنة لنشر الملكوت.
أوافقك بأن عدد كبير منا نحن أتباع المسيح الذين اخترنا البقاء نمتلك امتيازات تجعل من بقائنا ممكن، وهي امتيازات لا يمتلكها معظم الناس الساكنين (والعالقين) في لبنان. زد على ذلك أنه مع أننا عمليا بقينا هنا، ولكننا لا نأخذ الإنجيل إلى الأماكن الخطرة في لبنان حيث سنتعرّض للإضطهاد.
تنتظرنا أيام صعبة، فليعطنا الرب حكمة وقوة لنحيا إيماننا بشكل متطرّف في وسط هذا الإنهيار المتسارع للإقتصاد اللبناني ومجتمعه.
نقطة مهمة تطرحها، يا نبيل، حول دور الكنيسة في عملية التمييز (ما هو افضل) في الحياة الفرد. من الناحية المثالية، من الجيد اذا الكنيسة المحلية أن تلعب هذا الدور في التمييز معًا. تأتي الصعوبة في الممارسة العملية، على ما أعتقد، عندما يرى البعض في الكنيسة أن المعاناة هي المعيار الرئيسي، أو بالعكس الراحة، ويصبح التمييز الكنسي مكانًا للدينونة و التعير. كي لا نقول إننا لا يجب أن نطمح إلى ممارسة التمييز (ما هو افضل) معًا في الكنيسة المحلية، لكني أتساءل عن كيفية القيام بذلك بشكل جيد. ولحتى اطلع من هذا الخندق السلبي، بدّي انهي بتشجيع وال”آمين” على اقتراحتك لإيمان “راديكالي” في هذا الزمن الصعب.