بقلم عبد الكريم زين الدين
تحداني صديق مسيحي مؤخرًا أن أتوقّف لمدّة 3 أشهر عن الاستماع إلى (ما يسميه) الموسيقى العلمانية – أي الموسيقى غير العباديّة والتي لا تمجّد المسيح أو تدلّ المستمعين إلى الإنجيل. والمسموح أن أسمعه فقط هو الموسيقى المسيحيّة. يتبنّى صديقي جدلًا مفاده بأنّ أيّ شيء ينتجه هذا العالم الساقط هو مزيج ملوّث من الخير والشر الناجم عن سقوط البشريّة في سفر التكوين، وينحرف إلى الشر لأنّ ما يخلقه الله فقط هو خير. ويواصل القول أنّ الموسيقى هي نتاج هذا العالم الساقط، وبالتالي فهي شرّ وستؤثّر علينا بطرق سلبيّة. علاوة على ذلك، الله هو خالق الموسيقى، لذلك فإنّ الموسيقى روحيّة في جوهرها، وهي مادّة روحيّة، وهي تؤثّر على روح الإنسان ونفسه وجسده. ويقول صديقي أيضًا أنّ الشيطان يفسد عطية الله ليسلبه مجده. لقد خلق الله إبليس بنظام موسيقى “مدمج” (حزقيال 28 :13)، وبالتالي فهو خبير في خداع الناس بأصوات شريرة.
قبلت التحدّي علمًا أنّني أستمتع بالاستماع إلى موسيقى الآلات الهادئة أثناء قراءتي ودراستي. حتّى أنّني أستمتع بالاستماع إلى الأغاني “النظيفة” غير المسيحيّة. جعلني هذا التحدّي أفكّر أكثر في أنواع الموسيقى التي كثيرًا ما نستمع إليها يوميًا كمسيحيين. وهنا أسأل نفسي، كمسيحي، هل يجب أن أمتنع عن الاستماع إلى الموسيقى التي لم ينتجها مسيحيون؟ (صديقي يعتقد ذلك بالتأكيد.) وبينما نفكّر في الأمر، وقد يكون هذا الأمر خارج النقاش، أليست بعض الموسيقى المسيحية بحد ذاتّها مشكلة؟
لا يتحدّث الكتاب المقدّس على نحوٍ مباشر عن استماع المسيحيين للموسيقى العلمانيّة، لكن الأسئلة الثلاثة التالية قد تلقي بعض الضوء على هذه المسألة من خلال وضع بعض المبادئ.
أولاً، هل الفن عامةً والموسيقى خاصةً هبة من الله؟ يتحدّث المزمور 19 عن إعلان الله عن نفسه من خلال الخليقة (مز 19: 1-6) وكشف نفسه بصورة فدائيّة من خلال الكتاب المقدس (مز 19: 7-14). وهذا يعني أنّه يمكننا أن نجد الله ونستمتع به في الأشياء العامّة التي وهبها إلينا، والتي قد تشمل الطعام والأفلام والموسيقى. لكن خليقة الله سقطت، فأين نرسم الخط الفاصل بين ما نستمع إليه وما لا نستمع إليه؟ هل يجب أن يكون هناك فجوة بين ما هو مقدّس وما هو علماني؟ ما لم يؤمن المرء أنّ سقوط الخليقة أزال صورة الله تمامًا عنها، فيمكنه أن يطرح هذه الأسئلة.
وإلّا قد يتعيّن على المرء التوقف عن الاستماع إلى أي موسيقى آخر غير العبادة، والتوقف عن حضور السينما، وإلغاء حسابات فيسبوك ويوتيوب وإنستغرام، وحتى التوقف عن العيش في منازل بناها غير المسيحيين! أن تكون “في العالم، ولكن ليس من العالم” يطرح السؤال؛ إلى أي مدى نؤثّر على العالم ونتأثّر به؟ إذا كانت الموسيقى عاملاً مؤثرًا، فكيف يمكننا إدارتها دون شيطنتها كلّها؟ قد يتحدى هذا افتراضاتنا المقدّسة / العلمانية؛ العديد من الكنائس التي أعرفها في لبنان لا تشعر بالراحة حيال سد الفجوة بين المقدّس والعلماني. على سبيل المثال، يتردد العديد من الرعاة في استخدام “فضاءهم الديني المقدّس” لتناول وجبة المازة التقليدية واستخدام المقاعد في وسط الحرم الكنسي.
ثانيًا، هل يُكرّم الله وهل يرى الآخرون قدوة حسنة من خلال الموسيقى العلمانية التي أستمع إليها؟ “فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئًا، فَافْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اللهِ” (1 كورنثوس 10 :31). يحث هنا بولس المسيحيين على السعي لمجد الله وربح المؤمنين وخلاص غير المؤمنين. بينما يناقش بولس مسألة الطعام الذي يتم تقديمه للأوثان في كورنثوس الأولى 8-10، فإنّه يشجّع المسيحيين الناضجين على الحرص على حريتهم في المسيح طالما لديهم وعي واضح بشأن الطعام. في نهاية حجته، وضع بولس المبدأ القائل بأن كل ما نفعله، نفعله لمجد الله ومنفعة الآخرين.
بالإضافة إلى ذلك، يساعدنا هذا على التمييز بين الموسيقى غير المسيحية والموسيقى المسيحية. الأولى قد تنقل رسائل مفادها أنّ الكتاب المقدس “جيّد”، والأخيرة تنقل رسائل معاكسة تمامًا للكتاب المقدس. فهل الاستماع إلى موسيقى الجاز الهادئة، على سبيل المثال، يمجّد الله وقدّم قدوة للآخرين؟ قد يكون من المفيد طرح السؤال بطريقة مختلفة؛ وهل يسيء إلى الله والآخرين؟ على الرغم من وجود فرق بين الاستماع إلى كلمات أغنية والاستماع إلى موسيقى تلك الأغنية بدون كلمات الأغاني، إلا أن اّلاستماع إلى “Island Girl” لإلتون جون لا يكرّم الله أو الآخرين. حتّى إذا كنت تحب هذه الأغنية وتعتقد أنّ سقف حريتك عالٍ، فإنّ بولس يطلب من المسيحيين الناضجين أن يكونوا مستعدين للتخلّي عن حرياتهم من أجل الآخرين من ذوي الضمائر الأضعف. ولكن ماذا عن موسيقى الجاز الهادئة، إلخ …؟ أنت صاحب القرار!
ثالثًا، هل هناك حقيقة جليلة تؤثّر على شخصيًا في الموسيقى العلمانية التي أستمع إليها؟ “أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَقٌ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ…فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا” (فيلبي 4: 8). فيلبي 4: 2-9 هو توجيه بولس للمسيحيين فيما يتعلق بالتعامل مع الخلافات داخل الكنيسة. نصيحته هي أن نسعى للابتهاج بشركتنا مع المسيح ونركّز على التقوى. لذلك، حين نهتم بالأمور الإيجابية، سنختبر السلام بقوّة الله. أن نفتكر في الأشياء التي من عند الرب ينطبق على الموسيقى أيضًا.
من خلال البحث السريع، يمكن للمرء أن يجد بعض الأغاني العلمانية التي تحتوي على حقائق جليلة وتنقلها مثل محبة الآخرين بلا أنانيّة ومسامحة من يؤذوننا. تخطر ببالي أغنية مصرية شهيرة وأنا أكتب هذه الكلمات أو أغنية لويس أرمسترونج الشهيرة “What a Wonderful World“؛ قد ترغب في أن ترى / تستمع بنفسك إذا ما كانت هاتين الأغنيتين تجتازان اختبار فيلبي 4: 8. في يوحنا 2: 1-11، على الأرجح أن يسوع استمع إلى الموسيقى في حفل الزفاف في قانا، وقد أثنى على هذا الحدث الاحتفالي بتحويل الماء إلى خمر. ربما كان يرقص الدبكة. كان معروفًا بل واتُهِم بحضور الحفلات والأكل والشرب (متى 11: 19).
أخيرًا، وبالعودة إلى صديقي المسيحي، نتعلمّ أنا وهو ألا نحكم على بعضنا البعض فيما يتعلّق بآرائنا المختلفة حول الموسيقى العلمانيّة. لو كان بولس هنا، لأتخيل أنه كان سيتلو على مسامعنا رومية 14، وربّما كان ليحثنا على العيش في وئام. سينصح بولس كلانا بعدم انتقاد بعضنا البعض في الأمور الثانوية. إذا كنت تعتقد، وبضمير مسيحي جيد، أنّ الاستماع إلى نوع معيّن من الموسيقى العلمانيّة أمر جيد، فاستمر في الاستماع. وإذا لا، استمع فقط إلى موسيقى العبادة المسيحيّة.
بالمناسبة، لقد استمتعت بالاستماع إلى موسيقى الجاز المسيحيّة الهادئة بينما أكتب هذه المدونة.
عبد هو أستاذ مساعد في الخدمة الرعوية في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة. وهو عضو في كنيسة الناصري ويستمتع بمشاهدة الأفلام والاستماع إلى الموسيقى والتنزه.
2 Comments
خلال القرن الواحد والعشرين ارتفعت اصوات كثيرة سوى في الشرق الاوسط والغرب ايضاً تحاول الحفاظ على الكنيسة، حينما ارتفع تفاعل الكنيسة مع ثقافة المجتمع المحيط بها، فواقع الكنيسة في مصر يختلف عن واقعها في لبنان، سنجد ان الانفتاح على الاخر في كنيسة لبنان اكبر نسبياً من كنيسة مصر وهذا يعود على الواقع التي تتعامل معه الكنيسة. وهذا ما ينتج عنه ردة فعل من الكنيسة كاصوات تصرخ معارضه لامور قد تجدها شيطانية.
يذكرني هذا المقال بالقرن الخامس عشر حين حدث تزاوج بين الكنيسة والدوله، واصبحت الكنيسة تمارس شعائرها بشكل عام دون اضطهاد، وقبلت من ارتد عنها خلال فتره الاضطهاد، وكان ردة الفعل من البعض رفض ومعارضه بشكل مباشر لانهم وجدوا ان الايمان المسيحي لا بد ان يكون فيه تحديات وازمات.
باعتقادي الشخصي ان نظرية شيطنه العالم بشكل كلي، يجعل من الكنيسة في حالة انغلاق وصراع سلبي مع المجتمع المحيط بها، في حين ان دورها تكون النور في كل العالم، نعم لقد سقط العالم وتشوه صورته لكن لا يعني انه بالكامل فسدت صورته، فقد نجد شخص ما غير مؤمن لكنه يملك صفات السامري الصالح، وبهذا فأن نظرية التعميم ستكون معيقة لايصال رسالة الانجيل بالشكل الصحيح.
شكرا أخي العزيز جليل على تفاعلك ومساهمتك الملفتت لهذا المقال!
لا شك أنّ ألكنيسة قد تأثرت، وهي لا تزال تتأثر، بسياقاتها المتنوعة عبر التاريخ. ولعل “شيطنة” الاخر المختلف أو اعتبار أيّة ثقافة، وبالتالي أي منتج ثقافي كالموسيقى مثلا، على أنّها تحتوي بكليّتها على عناصر ملوّثة وشيطانية، سيؤدي تلقائيًا إلى ما أشرنا سويًا إليه. وهنا الدعوة والتحدي بأن نتحلّى بالقدرة على التمييز بما هي جوانب الفداء في ثقافة ما وما هي جوانب السقوط فيها. لا أدّعي أن هذا بالامر السهل، ولكنّ لا بد أن ننمو كأتباع المسيح لنقول مع يوحنا البشير أنّ “النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ.” (يو 1: 9). لقد ترك الله فينا بعضًا من نوره، وهذا ما يساعدنا على التفاعل معه والنجذاب اليه والنعبير عنه، أكان من خلال الموسيقى والفن أو في أي طريقة سواهما.