بقلم الياس غزال
الوضع في لبنان مفجع. لقد كُتب الكثير عن الأزمة الكارثيّة التي تواجه الناس في لبنان. والحقيقة المدمِّرة بشأن الأزمة هي أنّها صناعة لبنانيّة ذاتيّة. فلبنان يسير في طريق الدمار الذاتي، وإذا استمر في هذا الطريق دون الرجوع عنه، سينحدر البلد إلى مستنقع العنف والفوضى. هذا ليس تشاؤمًا، وبالتأكيد ليس ممارسة لموهبة النبوّة. هذا مجرّد تحليل سياسي.
السيناريو اللبناني مؤلم، لكن إذا نظرنا حولنا فهو لا يختلف عمّا يحدث في سوريا والسودان والعراق والجزائر وغيرها من بلدان الجوار. القادة الفاسدون يغتصبون موارد الدولة ويستخدمون مناصبهم السياسيّة لترسيخ أنفسهم في السلطة. والناس متروكون تحت رحمة مؤسّسة جشعة وعديمة الرحمة. يبدو أنّه ما لم يواجه الناس حكّامهم ويتحدون الوضع الراهن، فسيرزحون تحت وطأة المعاناة إلى أن يُفرَض التغيير من الخارج، وغالبًا ما يكون ذلك بتكلفة باهظة.
كتلاميذ ليسوع، ماذا علينا أن نفعل؟ أنصلّي؟ أنلتزم الصمت؟ أنحتج؟ أنثور؟ أنستعد للحرب؟ أننشر التوعية؟ أنهاجر؟ أنقوم بعمل الإغاثة؟ أننخرط في السياسة؟ أنقاطع السياسة؟ أنقوّي النسيج الاجتماعي للمجتمع؟ أنجيّش رعاة خارجيين للتدخل؟ أننتظر تسوية إقليمية؟ أنكتب مقالًا كئيبًا ننشره على مدوّنتنا؟ الخيارات لا حصر لها، والمواقف تختلف من شخص لآخر. إذًا، أيّ مسار نتخذ؟
ينظر المسيحيون الأمناء إلى الكتاب المقدس ليميّزوا دعوة الله لهم. يتضمّن ذلك استخلاص تطبيقات عمليّة من مقاطع تتحدّث عن أوضاعنا. على سبيل المثال، نرى في الكتاب المقدّس أنّ الله عادل، وأنّ العدل هو أساس الملك. ثمّ نأخذ على عاتقنا صنع نموذج لملكوت الله على الأرض وتأسيس مجتمع عادل. في الوقت نفسه، نرى في مكان آخر أن الله صاحب السيّادة وأنّه يوجّه الأمم كما يشاء. لذلك نستنتج أنّه يجب أن نثق بالله في أوقات الضيق وأن نطلب رحمته. لا يوجد أي تناقض هنا. نفهم أنّه علينا مسؤولية التصرّف، وأنّ الله يستخدم قدراتنا المحدودة لتحقيق أهدافه.
النقطة التي أسلّط الضوء عليها هي أنّه باتباع هذا النهج، فإنّنا نطوّر استجابتنا للظروف الحاليّة في ضوء صفات الله المُعلنة في الكتاب المقدّس. الله رحيم، لذلك يجب علينا القيام بأعمال الرحمة. الله قدوس، لذلك يجب الامتناع عن الانخراط في السياسة الفاسدة. الله أب محب، لذلك يجب أن نعطي الأولوية لسلامة أطفالنا. الله محبّة، لذلك يجب أن نظهر محبّتنا للغرباء. في حين أنّ هذه المنهجيّة تبدو كتابيّة، إلّا أنّها ناقصة وربما مضلّلة.
المشكلة هنا مضاعفة. أولاً، نصبح انتقائيين بشأن خصائص الله التي نبرزها. تدفعنا تجاربنا الشخصيّة وتحيّزاتنا على نحوٍ طبيعي إلى التركيز على السمات الشخصية التي تتماها مع شخصيّاتنا وتفضيلاتنا. ثم نستخلص تطبيقات شخصيّة خاصّة تتجاهل ظروف الآخرين وميولهم. وإذا لم نكبح ميولنا الشخصي، فذلك يؤدّي إلى مواقف أيديولوجية وخلافات مريرة بين المسيحيين. ثانيًا، والأخطر من ذلك، أنّ هذا النهج يغضّ الطرف عن جوانب مقلقة في شخص الله، مثل كونه قاضيًا وينتقم. نحن نميل إلى التقليل من أهمية العناصر التي لا تحظى بشعبيّة في مجتمعنا. في نهاية المطاف، عند اتباع هذا النهج نخلق الله على صورتنا.
بدلاً من تقديم استجابة للأزمات الحديثة تستند إلى خصائص الله المنتقاة وفقًا لرغباتنا الذاتيّة، من الضروري الانخراط في إعلان الله عن نفسه بصورة كاملة كما يُ الظهر لنا الكتاب المقدس بأكمله. يجب أن يصاغ موقفنا ورد فعلنا تجاه أيّ صراع وفقًا للاهوت الكتابي. بعبارة أخرى، كلّ ما نفعله يجب أن يكون بإرشاد القصّة الكبرى للكتاب المقدّس.
ما نراه من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا هو أنّ الله يعمل على استرداد عالم منكسر. خُلق العالم بصورة حسنة، لكن البشر تحدّوا سلطان الله وعصيانهم شوّه النظام الذي أسّسه الله. لذلك، فإنّ الخطيئة هي المشكلة المتأصّلة والدائمة. الخطيئة هي السبب الجذري لكلّ مشاكلنا. فالطبيعة البشريّة الساقطة هي جوهر كلّ مشكلة نواجهها. ما زلنا نعاني الألم والصعاب لأنّ المشكلة تنبع من داخلنا. رغباتنا ملوّثة بالخطيئة، وفي سعينا وراءها نؤذي أنفسنا وبعضنا البعض.
وفقًا لكلمة الله، لطالما كانت المشكلة هي الخطيئة، وستظل دائمًا كذلك. نحن غير قادرين على خلق مجتمع عادل ومنصِف لأنّ قلوبنا وعقولنا ملوّثة، ليس لأنّنا لم نتوصّل إلى أفضل هيكلية حوكمة حتّى الآن، أو لأننا لم نحدّد التركيبة الصحيحة من العقوبات والحوافز. إنّ المساواة والسلام بعيدا المنال ليس لأنّنا لا نحاول جاهدين بما يكفي لتأسيسهما. بل لأنّنا مخلوقات متمحورة حول نفسها ونحب الاستئثار بالقوة والثروة، ونحب أن نفتخر بها. نحن عاجزون عن خلق العالم الفاضل الذي نطمح إليه لأنّ الخطيئة تولّد فينا الأنانيّة والحسد والحقد والكبرياء وكل الرذائل التي نتمنّى لو أنّها لم تكن موجودة. غير أنّ الأخبار السارّة، وذروة إعلان الله، هي أنّ يسوع يخلّص العالم من الخطيئة. هذا هو الانجيل. هذا هو الحلّ الأساسي لبؤسنا.
وبالتالي فإنّ إعلان الإنجيل هو أمر جوهري وأفضل خدمة يمكن أن نقدّمها لمجتمعاتنا المنقسمة والعاجزة. إذا كان هدف الله الرئيس، وبالتالي إرساليتنا، تمجيد المسيح من خلال مصالحة العالم لنفسه من خلال دم يسوع، فإنّ كل ما نقوم به يجب أن يتوافق مع ذلك. يجب أن تشير أقوالنا وأفعالنا إلى المسيح وعمله على الصليب. يجب أن يكون إعلان إنجيل المسيح أساس حياتنا كلّها. يجب أن يوجّه تفكيرنا ويوجّه عملية صنع قراراتنا. يجب أن يؤطّر تقدّم الإنجيل أفكارنا وأعمالنا. يجب أن يكون المعيار الرئيس الذي نقيّم من خلاله الفرص والمبادرات.
ماذا يعني ذلك عمليًا؟ يعني هذا في المقام الأوّل أنّه يجب علينا إعادة توجيه كياننا بالكامل لنجعل سيادة المسيح معلنة في حياتنا وفي حياة الآخرين. أي، يجب أن ننمو في معرفة المسيح بينما نبحث عن فرص لنشهد للآخرين حول عمل يسوع الفادي. يجب أن تكون دعوة الناس إلى التوبة دافعنا المحرِّك. علاوة على ذلك، ثمّة قدر كبير من الحرية في كيفية تعاملنا مع شؤوننا الشخصيّة ومسؤولياتنا المدنيّة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ أفعالنا تقع في نطاق سلطة الله.
بصورة عامّة، يجب أن نسعى جاهدين لنكون نموذجًا يمثّل سيادة المسيح في حياتنا وفي مجتمعاتنا. غير أنّ على المستوى الشخصي، يمكن أن تكون الاستجابة للأزمات السياسيّة مسألة معقّدة. مواقفنا فريدة وسياقاتنا مختلفة. قرارات الهجرة أو البقاء، التصويت أو الامتناع عن إدلاء الصوت، الاحتجاج أو البقاء في المنزل، الترشّح لمنصب سياسي أو مقاطعة السياسة، دعم السياسات المحافظة أو الليبرالية، إلخ، هي قرارات ملائمة لسياقاتنا المتنوّعة ولكن الإجابة ستختلف من شخصٍ لآخر. يمكن لإرسالية الله أن توجّه تفكيرنا في هذا الصدد. يمكن أن يكون السؤال المفيد الذي يجب طرحه عند مواجهة خيارات متعدّدة: ما هو الخيار الذي يساعدنا في شهادتنا لإنجيل المسيح؟
هذا النهج يحرّر ويمكّن في الوقت عينه. إنّه يحررنا من أن نكون مدفوعين بتوقّعات الناس ومطالبهم تجاهنا. كما أنّه يضع سُلطان الله فوق حياتنا، ويسلّط التركيز على دوافعنا بدلاً من أدائنا السياسي. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تعزيز الإنجيل كهدف لنا يفتح لنا مجالًا للانخراط في أنشطة مختلفة ويوفّر لنا الحريّة لأن نكون مبدعين ومتعدّدي المجالات في استجاباتنا للأزمات السياسية. أخيرًا، إنّه يثبّت رجاءنا، غير المبني على المجتمعات البشرية القابلة للفساد، ولكن المبني على عودة المسيح واسترداده الكامل لنظام عالمنا في المستقبل.
الياس طالب دكتوراه في جامعة لانكستر حيث يبحث في أوجه الترابط بين الدين والسياسة في الشرق الأوسط.