بقلم برنت حمود
كم هو جميل أن نزور بيت لحم في هذا الوقت من العام حيث تقودنا مخيلتنا عبر السماء المرصّعة بالنجوم إلى موقع الميلاد الأوّل. الصوّر الشعبيّة الشائعة لقصّة الميلاد نرى فيها دائمًا مشاهد لشابّة حامل وزوجها القلق يبحثان عن مكان يرتاحان فيه بين الفنادق المزدحمة قبل أن ينزلا في إسطبل بسيط. وفي خضم هذا المشهد الدرامي المألوف، تبقى لنا صورة كلاسيكية للطفل المسيح وهو يلقي رأسه الصغير الجميل في مذود إلى جانب مريم ويوسف ومجموعة من الرعاة والملائكة والمجوس (وحتى بعض الحيوانات الودودة!). تشع هذه الصورة بجمال فتّان في الدجى والسكون والكرى سائدان.
ولكن هل هذا ما بدا عليه المشهد حقًا؟ قد يكون تصويرنا الكلاسيكي لقصة عيد الميلاد معتمدًا على ما نريد أن نراه أكثر ممّا يصفه الكتاب المقدس. غير أنّ نقاشي لا يتمحور بالتمام على تفسير قصّة الميلاد بل يدور أكثر حول النظر من خلال الإنجيل على الفشل الأخلاقي المعاصر، لأنّ قصة أطفال بيت لحم اليوم هي بالفعل قصة تثير القلق.
لم يكن هناك مكان في النزل للمسيح في عيد الميلاد الأوّل، وأطفال بيت لحم اليوم يجدون أنفسهم فعليًا في عالم بلا “مكان” لهم. إنّ عالمنا عبارة عن نظام من الدول القوميّة، لكن بيت لحم ليست جزءًا من هذا النظام. أطفالها مولودون عديمو الجنسية لآباء عديمي الجنسية؛ هم أصغر ضحايا الأزمة الفلسطينية لعدم الانتماء وعدم الاعتراف. هذا الظلم الصارخ الذي يحدث في مدينة الملك داود يجب أن يحرّكنا في عيد الميلاد وفي كلّ يوم.
تقع بيت لحم في قلب فلسطين، ولطالما كان سكّانها من أهل الأرض. مسقط رأس المسيح من بين الأماكن التي لطالما اعتبرها الفلسطينيون وطنهم، لكن الوطن بات مكانًا يغصّ بالصعوبات. هذه المدينة تتحمّل وطأة مشاريع القرن العشرين من إخضاع الأراضي وتقسيمها وتنظيم السكّان ضمن ظاهرة سياسية حديثة: نظام الدولة القومية. يمكننا مناقشة فضائل الدول القومية ورذائلها من الآن حتّى عيد الميلاد المقبل، لكن لا خلاف على أنّ أحداث القرن الماضي تركت ملايين الفلسطينيين في هذا القرن خارج حدود نظام أي دولة قومية. سواء أكانوا يقيمون في أوطانهم أو نازحون في أراضٍ أجنبية، لا مكانًا رسميًا للفلسطينيين في مجتمع الدول القومية. إن سكان بيت لحم هم من بين الأشخاص الذين يعانون من حالة انعدام الجنسية حيث من المحظور عليهم أمور الحياة المقدّسة مثل الوقوع في الحب والزواج وبناء الأسرة.
أقر بالمواقف المتباينة بشأن وضع الدولة الفلسطينية. من المناسب بالتأكيد تقييم الحجج المختلفة حول هذه المعضلة المعقدة، لكن الوقائع العملية تكشف بوضوح عن الوضع الراهن لانعدام الجنسيّة للفلسطينيين. الفلسطينيون محرومون من فرصة إصدار عملتهم الخاصة، أو السيطرة على حدودهم، أو تكليف جيشهم الخاص بالأمن القومي. هل هناك أي مظهر من مظاهر سيادة الدولة هنا؟ لا، وسبب ذلك لا يخفى على أحد.
لا تقوم دولة إسرائيل وفلسطين على أسس متساوية، وقد تعاملت إسرائيل باستمرار مع هذا التفاوت بضمّ المزيد من الأرض لدولتها.
بيت لحم اليوم ليست كما يجب أن يكون أي مكان في العالم، لكن البعض يريد أن يضعفها على هذا النحو. خسر الفلسطينيون إلى حد كبير فرصة إقامة دولة قومية في وطنهم وبدلاً من ذلك تم تسليمهم الاحتلال. فبدلاً من أن يكونوا مواطني دولة قومية، يعاني الكثيرون كضحايا لنظام الفصل العنصري حيث “السيطرة اليهودية الإسرائيلية على التركيبة السكانية والسلطة السياسية والأرض هي التي وجّهت سياسة الحكومة منذ فترة طويلة”. إنّ الوضع لا يطاق حقًا وسوف تتساءل الأجيال القادمة كيف يمكن لأجيالنا أن تتحمّل هذا الظلم لفترة طويلة. أفهم أنّ البعض يعتقد على نحوٍ قاطع أنّ إسرائيل ليست في الواقع دولة فصل عنصري. أدرك أيضًا أنّ البعض يعتقد أنّ بابا نويل حقيقي.
هذا المأزق ليس مجرّد عقبة مزمنة. الحياة في غياب دولة مُعترَف لها عواقب وحشيّة. لقد صنع التاريخ عالماً يُعامل فيه الناس على أنّهم بشر كاملون فقط إذا كانوا يمتلكون الجنسيّة المبنيّة على الأطر القانونية للأحوال الشخصيّة. (لهذا السبب إنّ فقدان جواز سفرك في الخارج هو أمر بالغ الخطورة!) تستند حقوق الإنسان إلى أنّ الدول القومية تعمل كأدوات أساسية لدعم الحقوق وتوسيع نطاق الحماية. لهذا السبب، فإنّ الحق في الجنسية هو بوّابة ضروريّة لجميع حقوق الإنسان الأخرى. على الرغم من أنّه ليس بالأمر الجيّد أن تكون جزءًا من دولة قومية وحشية، فمن المؤسف الأكثر عدم العضوية في أيّ دولة قومية على الإطلاق. يمكن أن تكون العواقب مميتة.
يقدّم التاريخ دروسًا مروعّة عن كيفية اندلاع الشر عندما يُعزل الناس عن الدولة. على سبيل المثال، ارتكبت ألمانيا النازيّة الفظائع في محرقة اليهود الأوروبيين من خلال إعدام الضحايا من التمتع بأي جنسيّة أولاً ثم إبادتهم في الأراضي التي دُمرت فيها الدول بالكامل. كانت الضربة المزدوجة للأشخاص عديمي الجنسية في الأراضي عديمة الدولة بمثابة حكم بالإعدام على الملايين، وتردد أصداء وحشيتها حتّى يومنا هذا. يتعرّض الفلسطينيون بانتظام لانتهاكات لا يمكن احتمالها، ولكن من الواضح أنّه يمكن التسامح مع الكثير من الانتهاكات عندما تكون ضدّ أشخاص عديمي الجنسية في أراضٍ لا دولة لها. من الضروري أن نتذكّر أنّ هذه الحالات لا تحدث أبدًا عن طريق الصدفة. إنّها دائمًا نتيجة مخططات شريرة.
إنّ انعدام الجنسية الذي يسلب الناس إنسانيتهم في بيت لحم (كما هو الحال مع كلّ الضفّة الغربيّة وغزّة) أمر حقيقي، ومعرفة أنّ مكان ولادة المسيح يخضع لأسوار السجن القمعية أمر كافٍ لإفساد عيد الميلاد. إنها تثير صرخة الترنيمة الإنجليزية، هلمّ عمانوئيل تعال وافدِ أسرى دولة إسرائيل. وثمة ألم تفرضه الجبهة الداخليّة أيضًا؛ حيث تواصل السلطات الفلسطينية نسج نسختها الخاصة من أسلوب الحوكمة المحبط الذي تشهده الدول العربية. كالعادة، الأشخاص العاديون هم أكثر عرضة للمعاناة من غيرهم في عالم غارق بالخطيئة والألم.
يجب أن نرثي لحال أطفال بيت لحم الذين يولدون عديمي الجنسية في حكم معاصر يهدّد بالتشبث بهم مدى الحياة، لكن عيد الميلاد لا يزال على حاله والأخبار السارة عن فرح عظيم لجميع الناس تبدو حقيقية! إنّ زمن المجيء يسلّط الضوء على كلّ شيء وفي كلّ مكان ليعلن حقيقة جسورة حول التجسّد، الرجاء الأبدي عمّانوئيل – الله معنا!
قد لا يكون عيد الميلاد في الواقع قصّة لطيفة عن طفل “لا مكان له” ولكنّه في الواقع إعلان جذري بأن الله قد جاء لمواجهة الاضطهاد ومنح المحرومين مكانًا للانتماء. الأم مريم تعبّر عن ذلك بأفضل صورة:
أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ.
أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ (لوقا 1: 52 – 53).
لا جغرافيا مفضّلة للمسيح، ولكن من الرائع أن يأخذنا الميلاد إلى بيت لحم. هلمّ بنا نذهب في قلوبنا إلى مدينة العصور القديمة تلك المدينة الصغيرة بيت لحم الأمس واليوم – وفكّر في زيارتها شخصيًا إذا استطعت! هناك، ونبذًا الحالة انعدام الجنسية، يتردّد صدى كلمات الملائكة: الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ!
صلاتي في عيد الميلاد من أجل بيت لحم والعالم هي:
بارك كلّ الأطفال الأعزاء
ببركتك الحنونة
وأصلح كل ما فينا لنكون جاهزين للسماء
حيث نعيش معك بهناء
يا ربّ، أرجوك اجعل مكانًا للأطفال الأعزاء للعيش معنا هنا أيضًا. أعطهم أن ينتمون إلى دولة قومية.
برنت هو المسؤول عن برنامح الماجستير في العلوم الدينيّة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة ولا يملّ من سماع The Little Drummer Boy