بقلم كيس فان دير كنيف
احتفلنا الأسبوع الماضي بعيد الميلاد. كما شارك عدد من زملائي في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، فإنّ الاحتفال بعيد الميلاد هو أحد أهم الأحداث في السنة المسيحيّة ويشحن فينا شتّى المشاعر والأفكار الجميلة. ما نحتفل به في عيد الميلاد جوهريًا هو التجسد: حي صار الله إنسانًا وهو حدث لم يسمع به أحد من قبل، ولا يمكن لأحد تصوّره، ولا يمكن تكراره. لكنّي أتساءل عمّا إذا كنّا في خطر تقليص هذا اللغز السامي باستخدامنا المفرط للصفة “تجسدي”.
أتأمّل في الكلمات القديمة لقانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني كتعبير لا مثيل له عن التناقض التام الذي نحتفل به في عيد الميلاد:
نؤمن…
بربّ واحد يسوع المسيح،
ابن الله الوحيد،
المولود من الآب قبل كلّ الدهور،
إله من إله،
نور من نور،
إله حق من إله حق،
مولود غير مخلوق،
مساوي الأب في الجوهر،
الذي على يده صار كلّ شيء،
الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا،
نزل من السماء
وتجسّد من الروح القدس، وولد من مريم العذراء،
وصار إنسانًا.
احتفلت الكنيسة بهذه المعجزة التي لا يُسبر غورها لعدّة قرون، وما زلنا نحتفل بها كلّ عام في رهبة وإعجاب. غير أنّنا منذ بضعة عقود، لم نعترف بالتجسد فحسب، بل أصبحت كلمة “تجسدي” شائعة بين المسيحيين الإنجيليين. تتمثّل إحدى مهام الدراسات اللاهوتيّة في النظر إلى الكلمات التي نستخدمها في الكنيسة وفي اللاهوت ومعرفة ما إذا كانت هذه الكلمات أمينة ومفيدة. لذلك، دعونا نتوقّف قليلاً في هذه الأيّام التي تلي عيد الميلاد ونتأمّل في كلمة “تجسدي”.
باتت تجسدي عبارة رائجة الاستخدام لوصف عدد من الأنشطة المسيحية. لهذه الكلمة طابع طنّان: مصطلح ذو دلالات إيجابيّة أساسًا يلعب دورًا مهمًا ولكنّه غامض لأنّه قلّما يُعرّف. الفكرة الأساسية من مصطلح “الخدمة التجسديّة” هي أنّ التجسد هو نموذج أساسي للخدمة المسيحية. أي أنّنا كمسيحيين مدعوون لاتباع نموذج التجسد في الطريقة التي نصل بها إلى من حولنا. يمكن استخدام كلمة “تجسدي” للإشارة إلى التواضع في انخراطنا مع المجتمع، أو فكرة أنّنا مرسَلون إلى العالم، أو التضحية بالنفس التي تأتي مع الخدمة، أو الحاجة إلى الخدمة المتجسّدة. في جميع المقاربات العلاقات أهم من البرامج.
يبدو أنّ هناك الكثير ممّا يستحق الثناء في فكرة “الخدمة التجسدية”. ولكي نكون منصفين، فقد أتت العديد من الأشياء الجيدة من أولئك الذين يستخدمون هذا المصطلح في تعليمهم اللاهوتي أو ممارسة خدمتهم. ومع ذلك، ما زلت أشعر أنّ المشاكل المتعلّقة بالمصطلح تفوق بكثير فائدته. سوف أذكر بإيجاز المشكلات الخمس الرئيسة التي تقنعني باستخدام الكلمة، إن كان يجب استخدامها، بحذر شديد.
أولاً، ثمة مشكلة كتابية. المقطع الرئيس لوجهة نظر الخدمة “التجسدية” هو فيلبي 2. فيلبي 2 هو فصل جميل جدًا، ولكنّه أيضًا فصل صعب للغاية. يتفق المفسّرون المعاصرون إلى حدّ كبير على أنّ ليس الدافع التجسدي هو ما يجب التشبه به، بل تواضع المسيح وإخلاء نفسه. يدعونا بولس لنعيش حياة الصلب وليس حياة “تجسد”. الفكرة الأساسية بالنسبة لي هي أنّه من الصعب فهم الجزء الثاني من ترنيمة المسيح في القراءة التجسدية: هل نحن أيضًا نقتدي بتمجيد المسيح؟ من المثير للانتباه أنّ أنصار خدمة التجسد عادة ما يناقشون الآيات 5-8 فقط.
ثانيًا، أرى مشكلة لاهوتية. يُعتبر تجسّد المسيح حدثًا فريدًا يشكّل (جزءًا من) أساس الإيمان المسيحي. إنّه خطوة إلهيّة حاسمة أصبح فيه الله إنسانًا في المسيح. وفقًا للتقليد المسيحي، كان المسيح إلهًا كاملاً وإنسانًا كاملاً في الوقت نفسه لحظة ولادته (أو منذ حُبل به). في ضوء ذلك، من العبث لاهوتيًا التحدث عن “عملية تجسّدية” نمرّ بها عندما ننتقل من ثقافة إلى أخرى في الخدمة. كان يسوع إنسانًا بالكامل، ولم يكن يتعلّم أن يكون كذلك. إنّ خوفي من استخدامنا لمصطلح “تجسدي” هو أنّنا إمّا نحن نختزل معجزة تجسد المسيح إلى شيء صغير ومفهوم، أو نبالغ في “التضحية” التي ينطوي عليها عمل الخدمة إلى شيء ليس واقعيًا ولم يكن من المفترض أبدًا أن يكون بالقدر الذي نبالغ في التعبير عنه.
ثالثًا، أرى مشكلة ثقافية. في مناقشات الخدمة التجسيديّة، غالبًا ما نعمل بمفهوم ثقافي ضعيف جدًا. نتظاهر بأنّه من الممكن الانتقال من ثقافة إلى أخرى، بينما في الواقع نشارك دائمًا في شبكة كثيفة من الطبقات الثقافية وندخل شبكة أخرى من هذا القبيل أينما نتحرك. حتّى لو كان من الممكن أن تصبح واحدًا بالكامل مع ثقافة مختلفة، فمن المستحيل القيام بذلك مع طبقات الثقافة المعقّدة والعالميّة التي نواجهها في الحياة الواقعية. بصفتي مرسلاً عابر الثقافات أعيش في لبنان، ألتقي بانتظام بأخوة وأخوات لبنانيين أشاركهم في العديد من مجالات الحياة أكثر مما كنت أتشارك مع جاري في روتردام.
بعد المشكلة الثقافيّة، ثمة مشكلة أخلاقيّة مرتبطة بها. بغض النظر عن الطريقة التي ندير فيها العمليّة، فإنّ الشخص الذي يحاول القيام بـ “خدمة التجسديّة” سيكون دائمًا هو المسؤول عن العمليّة. ومن ثمّ، فإنّ فكرة الخدمة التجسديّة يمكن أن ينتهي بها الأمر بسهولة إلى مجرد التغطية لعدم الاضطرار إلى مواجهة كلّ ديناميكيات السلطة المعقّدة التي غالبًا ما تكون متضمنة في عمل الخدمة. بمقارنة سعينا المعقّد لكيفيّة التعامل مع تلك العلاقات غير قابلة للمساواة مع تجسّد المسيح، نقارن ثقافتنا الوطنيّة بالثقافة الإلهيّة، وثقافتنا المضيفة بالجانب البشري. من خلال التأكيد على التضحية التي تنطوي عليها العملية، ما هي الرسالة التي نرسلها إلى الثقافة المضيفة؟
أخيرًا، ثمة عدد لا يحصى من المشاكل العمليّة، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بالخدمة عبر الثقافات. حتّى لو بذلت قصارى جهدي، فلن أكون قادرًا تمامًا على أن أصبح واحدًا مع الثقافة المضيفة التي دُعيت فيها للخدمة. فلماذا التظاهر حقًا بكوني واحدًا معها إذا كنت أعرف أنّ القوة التي يحملها جواز سفري، وإمكانيّة الوصول إلى الرعاية الطبّية، ورفاهية الإجازات والعطل، والحصول على التعليم لأولادي كلّ ذلك لن يشاركه أبدًا العديد من الأشخاص من حولي؟ ولم أذكر حتّى عمليات الإجلاء من قبل سفارتي التي تحدث غالبًا في أوقات الأزمات. لماذا التظاهر بكوني شخصًا من الثقافة المضيفة إذا كان الأشخاص الذين أعمل في خدمتهم سيدركون في غضون ثوانٍ أنّني لست واحدًا منهم؟ هل هذا هو المقصود بالتجسّد؟
بالنظر إلى كلّ هذه التحدّيات والمشكلات، أعتقد أنّه سيكون من الحكمة التخلي عن مصطلح “تجسدي”. صدقًا ما زلت أبحث عن بديل مناسب. على الرغم من أنّه يفتقر إلى التركيز على الوجود و”الملاءمة” في المجتمع الذي نخدمه، إلّا أنّني أفضّل حتّى الآن التحدّث بلغة الصليب. يُظهر كتاب صدر مؤخرًا حول “الخدمة الصليبية” إمكانات كبيرة. في غضون ذلك، دعونا نحاول أن نعيش حياة تليق بربنا المتجسّد: حياة التواضع والتضحية بالنفس. ودعونا نتأمّل بعمق في التجسد لدرجة أنّ حياتنا ستتغيّر بواسطته. بهذه الطريقة، قد نكون شهودًا على تجسده قولًا وفعلًا.
كيس هو مدرّس مشارك في اللاهوت النظامي في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة. إنّه يحاول أن يفهم جيّدًا الثقافات واللغات في لبنان دون الشعور بأي حاجة لجعل هذه عملية تجسديّة.