بقلم مايك كون
أثارت الرحلة التبشيريّة التي قام بها ماركوس ونارسيسا ويتمان الكثير من الاهتمام التاريخي. كُلِّف الزوجان في ثلاثينيات القرن التاسع عشر من قبل مجلس المفوضين الأمريكي للبعثات الأجنبية (ABCFM) لتبشير القبائل الأصلية في شمال غرب المحيط الهادئ الأمريكي – قبائل كايوز ونيز بيرس وأوماتيلا. وفي نواحٍ عديدة من حياتهما، كان الزوجان نموذجًا في بذل الذات في بيئة قاسية لا ترحم. كانت نارسيسا أول امرأة بيضاء تعبر جبال روكي. وكان ماركوس طبيبًا (رغم أنّ ممارسته للطب كان وفق التقنيات البدائيّة في عصره). لذلك كان يُعرف لدى القبائل باسم “توات” – المعالج. ووقعت المأساة عندما غرقت ابنتهما في نهر قريب. ثابر الزوجان وكان لهما دور فعّال في إضافة ثلاث ولايات جديدة – واشنطن وأوريغون وأيداهو – إلى الولايات المتّحدة. وتمّ إحياء ذكرى جهودهما في تمثال لماركوس ويتمان أقيم في العاصمة الأمريكيّة وكليّة تحمل اسمهما بالقرب من والا والا، واشنطن.
تمثال ماركوس ويتمان في مبنى الكابيتول الأمريكي
طريق أوريغون ومحطة ويتمان للإرساليات
غير أنّ قصّة ويتمان ليست انتصارًا بل مأساة. تتعمّق كاساندرا تيت في دراستها التاريخيّة بعنوان Unsettled Ground، في هذه الملحمة الإرساليّة، وتلقي الضوء على قصّة ويتمان من زاوية مختلفة. وفقًا لتيت، فشل ويتمان في إتقان اللغات الأصلية ما جعل التواصل تحديًا دائمًا. لقد وصفا السكّان الأصليين الذين وصلوا إليهم بالإنجيل بأنّهم قذرون ومضطربون. كان هدفهما “تحضّر” القبائل الأصليّة الذين اعتبروا تحولّهم يوازي الانتقال إلى نمط حياة إنسان أبيض-أوروبي يعتمد على الزراعة. لقد كان تحوّلًا لن تقوم به القبائل أبدًا لأنّها كانت متجذّرة بعمق في نمط حياة الهجرة الموسميّة للصيد والتجمّع. كانت الضربة الأخيرة انتشار وباء الحصبة الذي عصف بالعديد من القبائل الأصليّة. بالإضافة إلى ذلك بعد أن رأوا ماركوس وهو يسمم ذئاب القيوط، اعتبرت القبائل أنّ سلطاته كـ “معالج” تسمح له بالشفاء والقتل. وحقيقة أنّ المستوطنين نادرًا ما استسلموا للمرض، بسبب مناعتهم الفيروسية، تؤكّد هذا الشك. عندما قضى الوباء على القبائل، اعتقدوا أنّ أدوية الدكتور ويتمان كانت وسيلته للقضاء عليهم، ما مهدّ الطريق لمزيد من البيض أن يستوطنوا مكان القبائل. في الواقع، حوّل الزوجان انتباههما إلى تسهيل استيطان إقليم أوريغون.
وصل التوتّر إلى ذروته في صباح يوم 29 نوفمبر 1847 عندما قتلت مجموعة من كايوز ماركوس ونارسيسا ويتمان بوحشية مع سبعة آخرين. على الرغم من عدم الاستقرار في المنطقة وعدم وجود هيكليّة قضائية، فقد حوكم الجناة وشُنقوا. من ناحية أخرى، اعتبرت التقاليد القبليّة القتل بمثابة تبرير شرعي للضرر الذي يلحقه بهم المستوطنون. كما هو متوقع، أُجبر كايوز والمجتمعات الأصليّة الأخرى على الاستقرار في المحميّات، التي تم تقليص حجمها بشكلٍ كبير عن الوعود الأصلية التي قُطعت للقبائل.
يكشف تحليل تيت عن مفارقة معبّرة: على الرغم من أنّ ويتمان كانا مدفوعين برغبة صادقة في خلاص القبائل والتضحية البطولية بالنفس لتحقيق هذه الغاية، فقد افترضوا أيضًا أنّ القبائل ستتبنى أعرافها الاجتماعية الأوروبية البيضاء باعتبارها نتيجة طبيعية للإنجيل. لقد أرادوا تحويل القبائل إلى أسلوب حياة أوروبي أمريكي مفترضين أنّ ذلك جزءًا لا يتجزّأ من الإيمان بالمسيح.
في مدوّنة سابقة بعنوان ” إعادة التفكير في الشهادة المسيحيّة في الشرق الأوسط”، ناقشت مؤلفًا آخر (أسامة مقدسي) يربط بين الدافع الإرسالي للوصول إلى القبائل الأمريكيّة الأصليّة بالإرساليّة الباكرة إلى الشرق الأوسط (منتصف القرن التاسع عشر). في هذا المقال، قدّمت خمسة اقتراحات لتقدّم الشاهد المسيحي. يضيف كتاب تيت طبقة أخرى للنقد اللاذع للإرساليّة. يدفعني هذان الكاتبان معًا لإدراك أنّ النقد التاريخي يضع الإرساليّة المعاصرة تحت مجهر الفحص الذي يتطلّب الشفافيّة والموضوعيّة من أولئك الذين يشهدون للمسيح. قد يكون هذا مؤلمًا.
يبدو أننا في لحظة إعادة تقييم ثقافي عميق. إنّها حركة عالميّة – وقت يتم فيه الإطاحة بافتراضات الماضي وتبرز مكانها قيم جديدة (مثل الشمولية والتعددية الثقافية وما إلى ذلك). في يومنا هذا، تتعرّض الممارسات الإرساليّة مثل الإغاثة في حالات الكوارث، والكرازة، وزرع كنائس جديدة لانتقادات متزايدة بسبب ممارسات التفوّق الروحي، والمواقف الاستعمارية وغياب الاهتمام البيئي. يفترض الكثيرون أنّ القوّة الدافعة وراء الإرساليّة هي الغطرسة الثقافية. في الواقع، كتب مثل Unsettled Ground و Artillery of Heaven للمقدسي تثبت قضيتها من خلال البحث التاريخي المضني.
بصفتي شخصًا منخرطًا بعمق في الشهادة العالميّة للكنيسة، أعترف بأنّني أعترض على الانتقاد الهجومي للمرسلين. أتساءل ما إذا كان النقد عادلاً. قُتل ويتمان بوحشية نتيجة اتهام كاذب. تكريمًا لتضحياتهما، أقاوم تأجيج لهيب النقد. في الوقت نفسه، أدرك بشكل مربك أنّ الكثير من دوافع ويتمان (سواء كانت جيدة أو سيئة) لا تزال سارية في الإرساليّة المعاصرة. كانا متحمسين لجلب الخلاص لمن لم يتم الوصول إليهم. حماستهما أخفتت الوعي الثقافي؛ أضعفت التزاماتهما السياسية والاجتماعية تمثيلهما للمسيح؛ وتطول القائمة. باختصار، كانا مخلصين، لكنّهما مرسلين تشوبهما الشوائب … مثلي كثيرًا.
تبلغ ردة فعلي المشوّشة ذروتها في السؤال: كيف يمكن لأتباع المسيح اليوم أن يمثّلوا يسوع بتواضع ونعمة ومحبّة باذلة؟
امتلاك أخطاء الماضي أمر بالغ الأهمية. من الناحية النظريّة، لا ينبغي أن يكون هذا صعبًا. نعلم من الكتاب المقدّس أنّ شعب الله أساء فهم مقاصده باستمرار، وأعمتهم افتراضاتهم الثقافية. فكّر في يونان جالسًا تحت اليقطينة منتظرًا نار الدينونة لتسقط. حتّى تلاميذ يسوع كانوا متردّدين في قبول الرومان والأمم في الكنيسة (أعمال الرسل 10، 15).
إذا كان تحليل تيت صحيحًا، فإنّ ويتمان كانا يعانيان من عمى ثقافي لم يتغلّب عليه الحماس والتفاني. لقد أرادوا أن تكون القبائل مثلها ثقافيًا، على غرار المؤمنون اليهود الأوائل الذين أرادوا أن يصبح الأمم يهودًا ثقافيًا. القضية نفسها، والسياق مختلف. كشفت افتراضات ويتمان الثقافية عن فكر لاهوتي عميق كان ينبغي أن يقود ممارساتهم المرسليّة. لنقولها بإيجاز: كان اتباعهم ليسوع معيبًا (مثلي أيضًا). على الرغم من أنّني متردّد في انتقاد الشهداء الإرساليين، إذا كانت تيت على حق، فأنا أريد التعلّم من التاريخ.
من أين يأتي هذا العمى الثقافي وكيف نخرجه من شهادتنا العالمية؟ أقترح منظورين خاطئين من سرد ويتمان: أولاً، الفشل في ملاحظة النعمة المشتركة في ثقافة القبائل وأسلوب حياتهم، وثانيًا، الافتقار إلى النقد الذاتي، والفشل في إدراك غطرسة العقلية الاستعمارية. لقد كذّبت الالتزامات السياسية والاجتماعية وأحيانًا العسكرية للمبشرين الإنجيل الذي جاؤوا ليعلنوه. لو تمكّن ماركوس ويتمان، على سبيل المثال، من تكوين صداقات حقيقية مع القبائل، وتقدير أسلوب حياتهم وثقافتهم كتعبير عن نعمة الله المشتركة، فعندها التوسّط في خسارة أراضيهم بالكامل لصالح المستوطنين البيض كان سيكون أمرًا لا يمكن التفكير به.
أنا مواطن أمريكي عشت سنوات عديدة في الشرق الأوسط. في حين أنّ الكنيسة الأمريكيّة كانت مؤيّدة قويّة للشهادة العالمية (الإرساليّة)، فإنّني أشعر بالقلق إزاء الكيفية التي يُنظر بها إلى هذه الإرساليّة في المناطق التي خلّفت فيها موجات النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري للولايات المتحدة نزوحًا ومعاناة في أعقابها. فكّروا في العراق وأفغانستان وسوريا وفلسطين واليمن، إلخ.
يتطلّب إنجيل يسوع فحصًا ذاتيًا صارمًا. لقد أوضح أنّ أتباعه يجب أن يبذلوا ذاتهم كي يعتنقوا ملكوته. يجب على كلّ ولاء – سياسي، عسكري، واقتصادي – أن يفكّ قبضته على قلب تلاميذ المسيح. وهل من مكان أفضل لإعادة تعلّم هذا الدّرس من مشاركة الإنجيل الواهب للحياة عبر ثقافات عالمنا ولغّاته المتنوّعة؟
مايك هو كاتب ومعلّم مسيحي قضى معظم حياته في الشرق الأوسط ويعيش الآن في الولايات المتحدة. يمكن العثور على المزيد من الكتابات والمحاضرات على موقعه الشخصي على الإنترنت.