بقلم برنت حمود
آن موعد الانتخابات مرّة أخرى في لبنان! تمنح الانتخابات البرلمانيّة التي ستُجرى في 15 مايو / أيار القادم فرصةً لكلّ من تعرّض لانفجار المرفأ، وفقد قيمته في الأزمة، ونُهِبت أمواله، وعانى الإهمال وذلك لإعادة توجيه مسار الدولة. هذه طقوس ديمقراطيّة هنا وفي بلدان اُخرى. شهادة على قيمة المشاركة السياسيّة الجمهوريّة. كما أنّ الانتخابات تذكّرنا بالاستبعاد الصارم المتأصّل في عالمنا الذي يميّز الناس عن بعضهم البعض. تحيط الحدود الوطنية بالأراضي وتحيط بكلّ فرد على وجه الأرض. إنّ المرونة المتزايدة لهذه الحدود والقدرة على تخصيصها تديم ديناميكيات الانقسام البشري على نحو إشكالي للغاية بالنسبة للإيمان الكتابي.
يظهر الانقسام المحلي للدول القومية بوضوح بيني وبين زميلي في المكتب. نحن رفاق نتشارك مكان العمل نفسه، ونعيش في البلد نفسه، ونتحمّل آثار الأزمات نفسها. غير أنّنا لسنا متماثلين. هو مواطن وأنا أجنبي. في 15 مايو/ أيار سيُعبّر عن إرادته السياسيّة في صندوق الاقتراع بينما أنا أتفرّج على ما يجري في لبنان. (بالطبع، تنقلب الصورة خارج لبنان حيث يرفع جواز سفري مكانتي أمام العالم إلى مستويات لا يمكن لزميلي إلا أن يحلم بها).
لبنان، مثل أيّ دولة، تقسمه حدود وطنيّة. تؤثر نتائج الانتخابات على الجميع، ولكن لا يُسمح للجميع بالمشاركة. هذا أمر طبيعي تمامًا في النظام العالم السياسي – على الرغم من أنّ تصويت غير المواطنين لا يخلو من سابقة. يسكن الناس في الدولة نفسها ولكن الحدود تقسمهم باستمرار. تحدّد الحدود المرسومة على الأرض ومشرّعو القوانين هويّتنا من هم في الداخل ومن الذين في الخارج من هم مواطنون ومن هم أجانب. على الرغم من أنّ حدود الدولة القوميّة هي حدود دنيوية بحتة، إلّا أنّ تأثيرها يمتد إلى أوساط التفكير والممارسة المسيحية. هذا يجب أن يجعلنا نفكّر.
ظهر الوضع الراهن للدولة القوميّة في القرن العشرين لجعل العالم مكانًا أكثر تنظيمًا، لكن هل هو مكان أفضل؟ قد تكون قوانين الجنسية ساعدت في جمع العديد من الحقوق والأحكام والحماية للمجتمعات السياسيّة القوميّة، لكنّها عرّضت الأجانب واللاجئين والأقليات وعديمي الجنسية لأوضاع مهينة.
إنّ أيّ أقلية في العالم تتمتّع بامتيازات الرخاء داخل الدول الجيّدة يسعدها التأكيد على ضرورة الحدود، لكن غالبًا ما يخفق العالم في النظر إلى الأغلبية العالقة ضمن حدود الدول الصعبة. كيف يمكننا أن نقرأ عن مكان مثل لبنان يريد 75٪ من الشباب فيه مغادرة حدودهم حتّى مع تعليق الدولة لتجديد جوازات السفر وعدم مساءلة أخلاقيات عمل الحدود برمته؟ علاوة على ذلك، كيف يمكننا كأهل الإيمان الكتابي السماح للحدود بتشكيل فهمنا اللاهوتي للناس والعالم؟
أتباع المسيح لديهم كلّ الأسباب في هذا العالم للتدقيق في حدود الدولة القوميّة وحتى تخريبها عند الضرورة. مجتمعنا الإيماني عابر للحدود، وغير مقيّد بأيّ تحديد مسيّس للأراضي. إنّ إنجيل الملكوت هو في الأساس إعلان عالمي بمواطنة سماوية تسمو فوق كلّ الانتماءات الأرضيّة. السردّيات التاريخيّة للمسيحية هي بحدّ ذاتها قصص حركة بشريّة وامتصاص وترابط عام – كما هو الحال في التاريخ كلّه. تهدف الرؤية الكتابية للعالم إلى حقائق أسمى بكثير من أي كيان حدودي.
للأسف إنّ المسيحيين يصرّون في كثير من الأحيان على النظر من خلال عدسات الدولة القوميّة لأنّ الحدود التي تدور حول العالم تغرينا لاعتناق دوافع لاهوتية مقلقة. فهذه العداسات تحرّضنا على افتراضات بأنّ الله يريد أن يكون بعض الناس في مواقع جغرافيّة معيّنة. وتستحضر قناعات بأنّ الكنائس يمكن أن تجسّد الهويّات القوميّة أو أنّ الهويّات القوميّة يمكن أن تجسّد مكانة خاصّة ضمن خطط الله. وهذا ما يحوّل الكنائس دائمًا إلى أماكن يُرحَّب فيها بأيّ شخص ولكن ثمة قوم معيّنون هم فقط الذين يصلحون لأن يرحبّوا بالآخرين.
لا أتوهم أنّ الانقسامات البشريّة أن يختفي في هذا الجانب من الخليقة الجديدة. سيخلق العالم الساقط دائمًا حواجز مثل الجنس والعرق والطبقة الاجتماعيّة وغيرها من أسباب الاستبعاد. ومع ذلك، يجب أن نفهم الطرق التي يقسم بها النظام السياسي الدولي الحالي البشريّة على بصورة تاريخيّة استثنائيّة. من الجيّد أنّه لا يجب على المسيحيين أن يهتّموا بتحديد الطبيعة السياسيّة للأزمنة بل بالعيش بأمانة في جميع الأوقات. نحن نعيش في عصر الدولة القوميّة تتطلب فيه الشهادة أن نخدم دولنا بصورة حسنة. يلهمنا الكتاب المقدّس للقيام بذلك عن طريق الحفاظ على الحدود في أماكنها الصحيحة.
الكتاب المقدس هو إعلان عظيم عن رغبة الله في هدم الجدران الفاصلة بيننا. يظهر هذا بصورة واضحة في حياة يسوع المسيح وخدمته حيث أزال الحاجز بين الله والبشريّة وأظهر لنا طريقة جديدة لإشراك بعضنا البعض في المسيح. يستمر ذلك في الشهادة الكنيسة الأولى المنقادة بالروح القدس: يكشف سفر أعمال الرسل بوضوح عن التزام الروح القدس بهدم الانقسامات الجسديّة وجمع الناس في جسد متسامي من المؤمنين. على سبيل المثال:
إنّ إنجيل المسيح ليس محايدًا بشأن الانقسامات. إنّه يدفعنا على نقد مفاهيم النظام العالمي من خلال النظر إلى حدود الدول القوميّة وفقًا لواقعها الطبيعي: غير روحيّة. للحياة في الروح دور فعّال في اعتبار الحدود القوميّة إشكاليّة حتّى أثناء العمل بجدّ (والتصويت) داخلها لتعزيز الازدهار البشري.
جزء من الأخبار السارة هو قيام الكنيسة بهذا العمل بطرق لا حصر لها! تكثر الأمثلة على معاملة المؤمنين للأشخاص والأماكن وفقًا لاقتصاد الله بدلاً من ثنائية العالم. بقيامهم بذلك، يبرهنون على أنّ الهيكل الكنسي لجسد المسيح يمتد إلى ما وراء الحدود. التجربة العالمية للعديد من مجتمعات الإيمان هي صورة لملكوت الله توجّهنا إلى زمان ومكان تزول فيه الانقسامات البشريّة عندما تكون “الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ”. (رؤيا 4:21)
إن شاء الله، ستحدث الانتخابات في لبنان وستظلّ مجرياتها تحدث وفي أماكن أخرى. يجب أن يُمنح بسخاء حقّ التصويت لأي شخص له مصلحة ووجود ضمن حدود الدولة، لكن يجب عليهم أيضًا العمل بحماسة لإزالة نظام الدولة القومية القديم – وجميع الأنظمة الدنيوية الأخرى الآتية. في الوقت الحالي، يمكن أن تساعدنا ترنيمة بسيطة في التغلب على التعقيدات الراهنة بصورة متجدّدة:
حوّل عينيك إلى يسوع الوريع
تفرّس في وجهه الوديع
ستخفت ألوان الحدود على أرضنا بشكلٍ سريع
في نور مجده ونعمته البديع
برنت هو المسؤول عن برنامج الماجستير في الأديان وله بركة العيش في لبنان كما يستمتع بحياة تمتدّ عبر الحدود.