بقلم غريس الزغبي
في القرنين الثاني والثالث، طرح ترتليانوس السؤال الخطابي التالي: “ما علاقة أورشليم بأثينا، والكنيسة بالأكاديمية؟” هل شعرت يومًا بأنّك عالق في الانقسام الروحاني الأكاديمي؟ على الرغم من أنّه لا ينبغي أن تتنافس هاتان السرديتان مع بعضهما البعض، فغالبًا ما يبدو الأمر كما لو أنّهما كذلك. بغضّ النظر عمّا إذا كنت تعتبر نفسك واحدًا الاثنين، سواء كنت روحانيًا بحتًا أو أكاديميًا ملتزمًا، أو إذا كنت وفّقت في دمج هذين الجانبين معًا، فاقرأ مدوّنتي…
اسمحوا لي بدايةً أن آخذكم في رحلة شخصيّة.
كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما تعهّدت أن أقدّم لله أفضل ما عندي. كنت في غرفتي ولم يسمعني أحد إلّا الله. الدمج ما بين كوني طالبةً “متفوّقة” خلال سني الدراسية وكوني مراهقة مسيحيّة شغوفة إلى كلمات بولس في فيلبي 3: 8، “بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ.” في رأيي، الطريقة التي أختبر بها “فضل معرفة المسيح يسوع ” كانت دراسة كلمته. بغية تحقيق ذلك، أردت دراسة اللاهوت لإثراء معرفتي وتنمية إيماني. بعد عقدين من الزمان، أدركت أنّه ليس فقط من خلال دراسة كلمته، ولكن أيضًا من خلال معرفته على المستوى الشخصي.
في سن السابعة عشر، كان عليّ أن أقرّر تخصصًا أدرسه في الكلية. على عكس الوضع السائد، لم أتردّد لثانية واحدة في الالتحاق ببرنامج لاهوتي. سرعان ما اكتشفت أنّني أغرمت بالأوساط الأكاديميّة اللاهوتيّة. ولا يزال حبّي ليسوع في المرتبة الأولى. لأنّني أحببت يسوع، أحببت أيضًا الأوساط الأكاديمية. عندما بدأت في تشكيل مساري الأكاديمي، ألهمني الكثيرون، وتحدّوني، وشجّعوني.
دفعتني دعوتي ومهنتي إلى الالتقاء والتفاعل، إقليميًا على صعيد الشرق الأوسط وكذلك عالميًا، مع أكاديميين من الدرجة الأولى ولاهوتيين متفوّقين الذين أحترمهم كثيرًا لمعرفتهم، فضلاً عن إيمانهم العميق وروحانيتهم. لقد كانوا نماذج ملهمة وغذّوا إيمان حبّة الخردل الذي كان لدي. في الوقت نفسه، لم يسعني إلّا أن ألاحظ، وهذا مجرّد ملاحظة بالتأكيد ليس إدانة، أنّ آخرين في سياقي قد وقعوا في شرك جمود الأكاديميات اللاهوتيّة. يبدو أنّهم نسوا لماذا ندرس ونكتب اللاهوت.
حتى وقعت في هذا الفخ.
سرعان ما لاحظت كيف دفعتني كتبي وأبحاثي شيئًا فشيئًا بعيدًا عن مركز كلّ الأشياء: يسوع. في بعض الأحيان، كنت أستيقظ متحمسةً جدًا لكتابة عملي التالي، أو إنهاء مقالتي أو الرّد على حجّة شخص ما. (يمكن أن يصبح الأمر إدمانًا، أليس كذلك؟) لقد لاحظت أنّ شغفي للصلاة أو قراءة الكتاب المقدس بات يضعف. جعلني هذا السعي غير الصحي ضعيفة أو عرضني لشكلٍ من أشكال الوثنيّة. وعلى الرغم من أنّني وجدت الرضا في الأوساط الأكاديميّة، إلّا أنّه لا تزال هناك فجوة في علاقتي مع الله. جعلتني هذه الفجوة أدرك أنّه بدون أن أشرب من نبع المياه الحيّة، فأنا أحفر فقط أبارًا مشقّقة لا تضبط ماءً (إرميا 2 :13). هذا مشابه إلى حد ما لاعتراف القديس أوغسطينوس: “لقد خلقتنا لنفسك، يا رب، وقلوبنا تبقى مضطربة حتّى تستريح فيك”.
أنا لا أحاول هنا تصنيف الناس على أنّهم “روحانيون” أو “أكاديميون”. ولا أريد أن أنتقد أو أنذر. بل تأتي هذه المدونة بمثابة ملاحظة للذات، ولكنّها أيضًا لتشجيع آخرين على إبقاء يسوع في جوهر كلّ ما نقوم به. يخلق التشابك مع الأكاديميّة اللاهوتيّة غير الروحيّة تعقيدات للعلاقات الأسريّة والكنسيّة، فضلاً عن الصحة الجسديّة. يمكن تشبيهه باستعارة الثمر “الرديء”. نحن مدعوون لأن نحمل ثمر الروح، وليس إرضاء رغبات الجسد (غلاطية 5)، أي الأكاديميّة غير الروحيّة في هذه الحالة. لذلك، يجب ألا ننسى أبدًا سبب قيامنا بما نفعله سواء كان الانخراط في المساعي الأكاديميّة أو الخدمة. يسوع هو السبب الذي يجعلني أستطيع أن أضحّي بالعديد من وسائل الراحة من أجل إرشاد الآخرين إلى معرفته.
في كلّ هذا، يجب أن أحمي نفسي دائمًا من الوقوع في فخّ الصلابة والجفاف الذي تحمله الأوساط الأكاديمية في كثير من الأحيان. يجب أن أتذكّر باستمرار أنّ اللاهوت هو إحدى طرق عيش “الحياة الأفض” (يوحنا ١٠:١٠). كعلماء أو لاهوتيين أو ممارسين للخدمة أو أشخاصًا يعملون في المجال الدنيوي، يجب أن نلبس دائمًا ثوب المسيح. لنعيد تركيز حياتنا باستمرار عليه “الذي فيه مذخّرة كلّ كنوز الحكمة والعلم” (كولوسي 2: 3). وبالحديث عن بولس، أعتقد أنّه يقدّم مثالًا لشخص كان أمينًا ومثمرًا في أكاديميته الروحيّة. لقد كان ضليعًا في الكتب المقدّسة، ومتعلّمًا، وقادرًا على بناء الحجج، لكنّه في الوقت نفسه لم ينس أبدًا حبّه وشغفه لمعلّمه، وليس غمالائيل، بل هو الذي استحوذ على قلبه على تلك الأرض الوعرة، دمشق.
وأنا أكتب هذه المدوّنة، لديّ أحلام في مواصلة نشر المقالات وكتابة الفصول وتأليف الكتب. لكنّي لا أريد أن أبعد عيني عن واهب الحياة ومكمّلها. وبطبيعة الحال، في سياق أكاديمي، نريد تطوير مهاراتنا في التفكير النقدي والكتابة، ولكن ليس على حساب عمق روحانياتنا. بينما نسعى جاهدين لتقديم حجج مقنعة، دعونا لا ننسى سبب رغبتنا في إظهار التميّز والتفرد في الطريقة التي نفكّر بها ونتكلّم بها ونكتب بها ونعمل بها.
قد تتساءل عن كيفية تعريف الروحانيّة؟ بالنسبة لي، يظهر عمق الروحانيّة من خلال الرجوع مرارًا وتكرارًا إلى مصدر الحكمة، المسيح والكتاب المقدّس، بقيادة روح الله. نحتاج أن نعرفه حقًا وأن تكون لنا علاقة حيويّة معه. إنّ المهنة الأكاديميّة اللاهوتيّة المزدهرة هي عبث ومثل “مهب الريح” إذا كانت مبنيّة على علاقة مقطوعة مع الله. يقول دالاس ويلارد أنّ “رغبة الله لنا هي أن نعيش فيه.” عندما نكون في الله، نظهر أنّنا “رسالة من المسيح … مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي” (كورنثوس الثانية 3: 3).
ثمة أمر مثير للاهتمام هو أنّه في بعض الأحيان يكون من الصعب أن تكون روحانيًا أكثر من أن تكون أكاديميًا. من الأسهل وصف تعقيدات مجموعة من اللاجئين بدقة بدلاً من ممارسة الرعاية الشاملة تجاههم. إنّ تقديم دراسة تفسيريّة حول المقاطع المتعلقة بمحبة عدوّك أقل صعوبة من محبته في الواقع. إليكم هذا المثال من اهتماماتي البحثية الخاصّة. من الأسهل التحقيق في أسباب عدم مشاركة المرأة العربيّة في الأكاديميّة اللاهوتيّة بدلاً من مساعدتها عمليًا في العثور على مكانها. خلاصة القول، يجب ألا نتوقّف عن كوننا أكاديميين، ولا يجب أن نتوقّف عن السعي لنصبح “روحيين” وبالتالي دمج أفضل ما في العالمين. بالتأكيد، نحن جميعًا نعرف روحانيين عميقين لم يتدرّبوا لاهوتيًا لكن يتمتعون بعلاقة شخصية نابضة بالحياة مع يسوع.
إنّ سياقنا المسيحي في الشرق الأوسط في حاجة ماسّة إلى أفراد روحيين وأكاديميين، أو روحيين فقط يشاركون بصورة واضحة في العالم العلماني. بهذه الطريقة يمكننا المساهمة على نحوٍ هادف في مجتمع صحي ومزدهر. من المثير للدهشة، بينما كنت أبحث عن كلمات لاختتام هذه المقالة، المكتوبة في ظهيرة يوم جمعة ضبابي، أتساءل عمّا إذا كانت هذه المدونة أكاديمية بدرجة كافية. إنّها ليست كذلك في الواقع، لكنّها جيّدة (آمل ذلك).
يا رب، أصلّي ألا أقع أبدًا في تجربة التحوّل إلى الكسول في إيماني، واللامبالاة في حبّي لك ولشعبك، والمجتمع الذي أخدمه والذي أرغب في التأثير فيه، فقط لأنني أعرفك يا رب.
غريس هي محاضرة في دراسة اللاهوت وتعمل حاليًا لنيل شهادة الدكتوراه من مدرسة لندن اللاهوتيّة.