بقلم وليد زيلع
في حلول الرابع من آب/أغسطس 2022 هذا الصيف يكون قد مرّ عامان على انفجار مرفأ بيروت، وهو أحد أقوى الانفجارات وأكثرها دمارًا في التاريخ الحديث. أودى بحياة المئات عبثًا، أصيب الآلاف، ونزح عدد لا يحصى من المناطق المجاورة دون أي سبب مبرّر.
لقد مضى عامان على ارتكاب واحدة من أبشع الجرائم. والمثير للدهشة أنّه لا أحد يُحاسَب على قتل الأبرياء الذين لم يعتقدوا أنّ 4 آب/أغسطس سيكون يومهم الأخير. لم يعد أحد يتحدث عن هذه الجريمة باستثناء بعض أقارب الضحايا الذين تم قمعهم في النهاية، حتّى الكنيسة صامتة بهذا الصدد.
أكتب في ذكرى أولئك الذين فقدوا حياتهم عبثًا. على الرغم من أنّهم قد يكونون قد قضوا على حياتك؛ ربّما كسروا عائلاتك، ربما تسببوا لنا جميعًا بألم لا يُطاق؛ وقد يكونون قد فكروا فيك على أنّك مجرد نقطة على الخريطة، لن ينتزعوا منك كرامتك وحقيقة أنّك مخلوق على صورة الله. على الرغم من أنّ مدونتي لن تنصفكم، إلّا أنّني أريد أن أضيف صوتي إلى كلّ من يذكرونكم دائمًا، مع العلم أنّ صلواتنا مسموعة ويستجيب لها الله في الوقت المناسب، ونأمل أن تستجيب كنيسته كذلك.
أكتب عنك لإعلامكم أنّه إذا تم تسكير ملف قضيتكم قضائيًا وسياسيًا ووطنيًا ودوليًا، آمل أن يرتفع صوت الكنيسة النبوي في النهاية لإبقاء قضيتكم مفتوحة أمام القاضي الإلهي الأبدي. غير أنّ إذا كانت الكنيسة لسبب ما قد انضمت إلى بقية العالم في التغاضي، والمماطلة، والهدوء، فويل لنا!
ما يشغلني ليس فقط الظلم الذي لحق بكم وبنا. أنا يقلقني أيضًا اللامبالاة، أو ربّما الوصف الأفضل، التكيّف السريع للكنيسة. أعتقد أنّ الكنيسة أصبحت مرنة للغاية لدرجة أنّها تتكيّف بسرعة لتتلاءم مع العالم. إن فكرة الملائمة تمنع الكنيسة من تحقيق طبيعتها النبويّة كعامل للتغيير.
لقد تمّ إنفاق مئات الآلاف من الدولارات على وسائل التواصل الاجتماعي لإعادة بناء بعض الأضرار التي سبّبها الانفجار.
غير أنّ، في السعي لتحقيق العدالة، ثمة قضية أعمق على المحك. أتساءل ما الذي كان سيحدث لو تجاوزت الكنيسة مجرّد الانخراط في العواقب.
ماذا كان سيحدث لو دعمت الكنيسة إحدى عائلات الضحايا في سعيها القانوني لتحقيق العدالة من خلال تعيين محامٍ لمعالجة القضية في المحكمة؟
ماذا كان سيحدث لو أنّ الكنيسة أسّست منظّمة باسم ضحايا انفجار بيروت لإبقاء قضّيتهم حيّة؟ إذا كانت الكنيسة قد احتجت مع عائلات الضحايا عندما رفعوا أصواتهم للسعي لتحقيق العدالة لأحبّائهم أو استخدمت منصّات على الإنترنت واستضافوا عددًا قليلاً من العائلات كوسيلة للدعم؟
أتساءل كيف يمكن أن ينظر المجتمع إلى هذه الإجراءات للسعي لتحقيق العدالة بدلًا من إصلاح الضرر.
أعتقد أنّنا أصبحنا مرنين للغاية لدرجة أنّنا نتكيّف بسرعة مع أعراض الظلم التي نمر بها جميعًا والتعامل معها ببساطة.
فالملاءمة تشبه قطف الثمار لإطعام الفقراء بعد قطع الشجرة، ما يقلّل من وطأة الجريمة وهذا لا يتماشى مع الطبيعة النبوية للكنيسة. من خلال إخفاء الأعراض، فإنّنا (عن غير قصد) نمكّن الجناة ونجعلهم يبدون جيدين.
لكي تكون صوتًا نبويًا، يجب أن تكون الكنيسة على استعداد للقيام بأمرين: التكلّم والعمل وفقًا لذلك. كان على شعب الله في العهد القديم أن يعيشوا طبيعتهم النبوية بين الأمم، لكنّهم انحرفوا عن مسارهم وقرّروا التخلي عن تميّزهم كشعب الله باتباع طرقهم الخاصة. من خلال عدم كونهم النموذج النبوي للأمم، فقد احتاجوا هم أنفسهم إلى صوت نبوي تمّ من خلاله دعوتهم لتصحيح مسارهم والعودة إلى المسار الصحيح مرّة أخرى.
في لبنان ، ليس من الصعب تحديد الشر. على عكس الأماكن الأخرى في العالم حيث قد يتطلّب الظلم والفساد تحقيقًا شاملاً، بالنسبة لنا في لبنان، تُكسر كلّ القواعد، وتحدث كلّ عمليات الاغتيال، ويُخطَّط لكلّ عملية احتيال على مرأى من الجميع من قبل أولئك الذين كان من المفترض أن يحموا ويهتموا. على الرغم من أنّه واضح جدًا للعين المجرّدة، فإنّنا نتكيّف سريعًا بالحفاظ على الهدوء وتعلّم كيفية التعامل مع ما يحدث.
حتّى لو قرّرنا أن نحيا طبيعتنا النبويّة، فإنّ أكبر فخ نقع فيه هو عندما ننتظر التغيير الذي نريد أن نراه نتيجة لصوتنا النبوي. الطبيعة النبويّة للكنيسة ليست أداة للمساعدة في تحقيق أهداف معيّنة. إنّها عمليّة وطريقة عيش ورحلة. إذا فهمنا الطبيعة النبوية للكنيسة على أنّها التزام مؤقّت لتحقيق أهداف محدّدة، فلن تكون نبوية. نحن لسنا مدعوين لأن نكون مدفوعين بإنجازاتنا، ولكنّنا مدعوون للثقة والطاعة وتنفيذ خطة الله فينا ومن خلالنا وبإرادتنا. علاوة على ذلك، يجب أن نكون مستعدين لدفع الثمن.
لقد فقد الكثيرون حياتهم عبثًا، ويعاني آخرون من عواقب عقود من الفساد والقمع. تُعد محاولة تخفيف معاناة الناس من خلال تلبية احتياجاتهم خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة للكنيسة للانخراط في سياقها المحلي. ومع ذلك، فإنّ البقاء على هذا المستوى من الخدمة وعدم معالجة القضايا الأساسية سيضرّ أكثر مما ينفع على المدى الطويل. إذا كنّا نلبي احتياجات الناس فقط، فنحن بطريقة ما نكافئ الظالم ونخفي جرائمه.
ليس كل شخص بحاجة إلى قسيمة طعام وبطانية. ما يحتاجه الناس حقًا هو أن يتصرّف شخص ما نيابة عنهم ويطالب بحقوقهم المسلوبة وكرامتهم الضائعة. إذا لم تكن الكنيسة، فمن سيفعلها؟ حقوق قريبي مسؤوليتي.
أصلّي وآمل أن تتقدّم الكنيسة لترتقي بخدمتها وحضورها في المجتمع إلى المستوى التالي وتكون مستعدّة لدفع ثمن صوتها النبوي باعتباره وكيل الله للتغيير.
الإيمان قرار…. الانتماء إلى “نعم” لله التي يقابلها “لا” واضحة بالقدر نفسه. إنّ نعمك لله تطلب منك لا لكلّ ظلم، لكلّ شرّ، لكلّ كذبة، لكلّ ظلم وانتهاك للضعيف والفقير، لكل تكفير واستهزاء بالقدوس. تتطلّب نعم لله رفضًا شجاعًا لكل ما يعيقك عن خدمة الله وحده، سواء كانت مهنتك، أو ممتلكاتك، أو منزلك، أو شرفك أمام العالم. الإيمان يعني قرارًا. ديتريش بونهوفر
وليد هو العميد الأكاديمي في كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة وهو راعي كنيسة الإيمان المعمدانيّة في المنصورية.
ديتريش بونهوفر، The Collected Sermons of Dietrich Bonhoeffer 203.