بقلم غريس الزغبي
استضافت كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة، عبر الإنترنت، مؤتمر الشرق الأوسط 2022 بعنوان “سلامًا أترك لكم: نظريات خدمة السلام وممارساتها في الشرق الأوسط” وذلك من 21 أيلول/سبتمبر إلى 23 أيلول/سبتمبر. احتشدت مجموعة من المساهمين افتراضيًا لمساعدتنا على التفكير في كيف يمكن للكنيسة أن تكون صانعة سلام في أوقات النزاع. بغية تحقيق ذلك، عالج مؤتمر الشرق الأوسط الموضوع من خلال عدسات خدمة السلام عبر الأبعاد الشخصية والجماعية والوطنية. هذه هي المقالة الثانية في سلسلة مدونة كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة المكوّنة من 3 أجزاء والتي تعكس المناقشة الشاملة للمؤتمر. يُرجى الملاحظة أنّ منشورات مدوّنة كلية اللاهوت المعمدانيّة العربيّة قد باتت في جدول نصف شهري
أصوات السّلام في كلّ مكان
نشأت في سياق فلسطين الشديد التقلّب، لم أتوقّع أنني سأهتم بأن أصبح صانعة سلام على الإطلاق. ذكريات طفولتي يرافقها صور عمليات إطلاق النار وحظر التجول وإراقة الدماء. غير أنّ تعرّضي لهذا السياق دفعني لأن أدرك أنّ صنع السلام هو وليد لقاء إيماني المسيحي وخبراتي الحية. بصفتي من أتباع المسيح، فأنا في وضع يمكنني من خلاله المساهمة في التفكير اللاهوتي حول الصراع في منطقتنا، والقيام بذلك سلميًا. في هذا العالم غير المسالم الذي نعيش فيه، بطبيعة الحال، ثمّة دائمًا المزيد الذي يمكننا تقديمه. قد يشعر البعض أنّنا فعلنا الكثير ولكنّنا لم نشهد نتائج ملموسة؛ لذلك نستسلم ونتوقّف عن العمل من أجل السلام. ومع ذلك، فإنّ إيماني ورجائي في عمل المسيح الكفّاري بين الله والبشريّة يقودني إلى الاعتراف بأنّنا يجب ألا نشعر أبدًا أنّنا قمنا بما يكفي. بالنسبة لي شخصيًا، وبالنسبة للآخرين، أشارت الأفكار من اليوم الثاني من مؤتمر الشرق الأوسط إلى “المزيد” الذي يمكننا القيام به للمضي قُدمًا نحو تحقيق السلام في المجتمعات التي نحبّها ونقدرها بعمق.
من المفارق أنّ المكان الجغرافي عينه الذي جسّد رسالة السلام من خلال تجسّد يسوع المسيح يهيمن عليه الآن أشكال مختلفة من القمع في ظلّ كفاح عصيب للحفاظ على السلام. أتساءل أحيانًا ما الذي حدث على أرض “السلام على الأرض” في الترنيمة التي أنشدها الملائكية قبيل أكثر من ألفي عام في بيت لحم. من خلال الملاحظة والتجربة الشخصيّة المؤلمة، يمكنني مشاركة مدى صعوبة التعبير عن الحب لـ “الآخر” في ظلّ العيش في سياق قاسٍ كهذا. بل على عكس ذلك فمن السهل أن تتجذّر بذور الكراهيّة. عندما تتأصّل محبّة الله فينا، فإنّها تدفعنا إلى أن نحب ما وراء الجدران الماديّة الفاصلة التي بُنيت في مسقط رأسي. يمكن للناظرين بسهولة ملاحظة الجدران الماديّة، ولكن ثمّة أيضًا جدران روحية غير مرئية لا يستطيع الكثير من الناس إدراكها، أو ربّما يختارون عمدًا التغاضي عنها: جدران الكراهية والأحقاد والمرارة والمشاعر القاسية. هذه الجدران لها تأثير سلبي بعيد المدى على شعوبنا.
على الرغم من تهميش أصوات المسيحيين العرب لفترة طويلة، اتفق جميع الذين شاركوا في مؤتمر الشرق الأوسط 2022 على أنّه يجب علينا أن نتعلّم كيف نتوقّف عن التفكير في أنفسنا كضحايا ويجب أن نتعلّم التغلّب على أيّ عدوان صغير أو كبير بمحبة الله. ينبغي لقصص الحب والغفران والخدمة المضحيّة المتواضعة أن ترفع أصوات المسيحيين العرب وهم يتكلّمون عن مواجهة الظلم وعن محبة الله.
تم تسليط الضوء على هذه الأصوات في اليوم الثاني من مؤتمر الشرق الأوسط.
تذكير مهم من مشاركتي هو أنّه لا ينبغي لنا أبدًا التغاضي عن إنسانيتنا المشتركة. “أوبنتو” مصطلح أفريقي يعني “الإنسانية”، وغالبًا ما يُترجم “أنا من أنا بسبب هويتنا المشتركة”. تصفها اللاهوتية الفلسطينية رولا منصور على النحو التالي:
إنّه يشير إلى أنّ البشر مترابطون بعمق فيما بينهم، ويغدون بشرًا بكلّ ما في الكلمة من معنى فقط بالتواصل مع الآخرين … لأنّ إنسانيّة الفرد مرتبطة بالبشر الآخرين، يسعى الشخص إلى أن يكون أخلاقيًا ورحيمًا واجتماعيًا … وهكذا، فإنّ سلوك الشخص يخضع للتفكير في تأثيره على رفاه المجتمع وعلى العلاقات الصحيحة. (منصور 2022)
باتباع هذا النمط من التفكير، لا نقص في الفرص المتاحة لنا لنختار أن نصبح بشرًا بكلّ ما في الكلمة من معنى. ثمة مثال من دائرة الآباء – منتدى العائلات (PCFF) وهي منظّمة إسرائيليّة فلسطينيّة مشتركة تضم أكثر من 600 عائلة، وجميعهم فقدوا أحد أفراد أسرهم المباشرين بسبب الصراع المستمر. خلص المنتدى إلى أنّ عملية المصالحة بين الجماعات هي شرط أساسي لتحقيق سلام مستدام. في رأيي، هذا مثال قوي على إنسانيتنا المشتركة، حيث يمكننا أن نبكي معًا ونعيش على أمل أن يكون الغد أفضل. إذا اتبعنا الوعد الكتابي، فسيأتي الترنّم في الصباح (مزمور 30: 5).
على مدى السنوات الثلاثين الماضية، عملت مصالحة على جمع مجموعات من الفلسطينيين والإسرائيليين والمسلمين والمسيحيين للعمل معًا عبر ستّ مراحل من المصالحة. ذكّرتنا مشاركة سليم منيّر أنّ المصالحة هي حاجة واضحة في إسرائيل وفلسطين – واحدة من أطول الصراعات الراهنة في العالم. نادرًا ما تكون رحلة المصالحة مباشرة. الصراع في إسرائيل وفلسطين يمتد بعمق عبر التاريخ والمجتمع والحياة الشخصيّة. في الأرض المقدسة وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط، لا يزال الواقع على الأرض يمثل تحديًا كبيرًا. السيناريو العام لانخفاض عدد المسيحيين في خضم الصراع المؤلم الذي طال أمده يعكس حقيقة التهميش. ومع ذلك، بصفتنا أعضاء في جسد المسيح العالمي، فإنّنا مدعوون لأن نجعل تأثيرنا الاجتماعي ظاهرًا أكثر.
عرّفنا رولا ورامي طالب على عمل الشبيبة رسالة، وهي جماعة متنوّعة بقيادة محليّة من الباحثين عن السلام الذين يعملون على نحوٍ أساسي مع الجيل الناشئ في لبنان لتعزيز التماسك الاجتماعي وبناء مستقبل أكثر سلامًا. إنّها “منظّمة مرتكزة على الإيمان، تعمل على مستوى ما بين الأديان والطوائف، وتسعى إلى بناء جسور داخل الكنيسة وبين الطوائف الدينيّة المختلفة في لبنان”. عند التفكير في اليأس الذي يعيشه العديد من الشباب اللبناني، أرى الكثير من الأمل من خلال عمل هذين الزوجين الديناميكيين. لقد اتضح لي أنّه داخل مجتمعاتنا، يجب على الجميع المشاركة في مبادرات صنع السلام: كلّ شخص لديه مسؤوليّة وهو مدعو لممارسة تأثير تصالحي؛ لا أحد يمكن استبعاده. لقد تم اختيارنا لنكون مؤثّرين.
شرح القس آرا بداليان الفرصة المتاحة للكنيسة في العراق لتعزيز المصالحة من خلال الإنجيل بخدمة من حولهم. أكّد بداليان، وهو مسيحي عراقي، كيف تعمل الكنيسة بجدّ لتلبية احتياجات اللاجئين. تزور فرق الإغاثة العائلات النازحة من مختلف الخلفيات الدينيّة والعرقيّة وتقدّم الطعام ومواد الإغاثة الأخرى. ذكرنا باداليان أنّنا مدعوون لتلبية الاحتياجات الروحيّة والعمليّة للآخرين، ولكن علينا أيضًا أن نواجه قوّة الظلم بحكمة، وأن نوطّد جهودنا عبر الخطوط الطائفيّة والدينيّة والسياسيّة.
عامًا بعد عام، يستمر دور المرأة في الكنيسة والمجتمع في أن يكون مركزيًا في مناقشات مؤتمر الشرق الأوسط. هل يمكن أن يستدعي ذلك مؤتمرًا خاصًّا به؟ سنرى مدى الجديّة والسرعة في الاستجابة لهذه الدعوة. من المهم أن يكون لدى النساء المسيحيات العربيات منتديات لرعاية هذه الأنواع من المحادثات حول السلام. يجب تشجيع- هذه المنتديات على خلق مساحات تسمح للنساء اللاهوتيات العربيات بالتواصل مع بعضهن البعض ومع “الآخر”. بعبارة أخرى، من الضروري وجود مساحات ومنتديات للحوار المسيحي-المسيحي وأخرى للحوار المسيحي-الإسلامي والمسيحي-اليهودي فيما يتعلّق بالسلام. من خلال الأمثلة التي يعرضنها، يمكن للمرأة المسيحيّة أن تحفّز النساء المسيحيات الأخريات على أن يصبحن حكيمات وفاعلات في صنع السلام داخل مجتمعاتهن.
ما زلت أسمع الناصري يعلن من أعلى جبل التطويبات، “طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء الله يُدعون.” طوبى لصانعي السلام، طوبى لصانعات السلام، طوبى للأطفال والشباب وصانعي السلام المسنّين. لدينا جميعًا صوتًا لنشارك إنجيل السلام بجرأة وشجاعة وبدون تردد. إنّ إدخال الإيمان في المحادثة ضمن سياقنا يدفعنا إلى الصلاة من قلوبنا إلى رئيس السلام ونحن نسعى لأن نكرم الله في كلّ ما نقوم به، بما في ذلك جهودنا التي لا غنى عنها لصنع السلام.
غريس محاضِرة في التعليم اللاهوتي وتعمل حاليًا على نيل الدكتوراه من كلية اللاهوت في لندن. تحلم بأن ترى السلام يعمّ بلدها الأم الحبيب ومنطقتها باسرها.