بقلم عبد زين الدين
منذ طفولتي أتذكّر والدي وهو جالسٌ بمحاذاة شاشة التلفزيون ليتمكّن من مشاهدة برامجه المفضّلة أو حين كان يطلب منّي أو من أختي القراءة له، حيث تمّ تشخيص إصابته بـستارغاردت، وهو مرض وراثي نادر في العين لا علاج له. الأشخاص ذوو الاحتياجات الخاصّة موجودون حيثما كان حولنا. أجرى صديق لي استطلاعًا مع مجموعة من المسيحيين بشأن ما إذا كانت لديهم علاقة وثيقة مع شخص من ذوي الاحتياجات الخاصّة، وقال أنّ 65 في المائة منهم كان لهم علاقة بهؤلاء الأشخاص. خلال تجربتي مع اتباع يسوع، لا أتذكّر أنّ كنيستي قد ناقشت موضوع الاحتياجات الخاصّة أو أنّ تدريبي اللاهوتي أشار حتّى إلى هذا الموضوع. لكن يبدو أنّ بعض المؤسّسات التعليميّة في لبنان أكثر وعيًا لهذا الواقع. على سبيل المثال، SKILD هو مركز تعليمي متخصّص ملتزم بتقديم مساعدة متخصّصة للأطفال ذوي الصعوبات التعلّميّة، وتوعية المجتمع على هذه الصعوبات، واتباع نهج تحولي مع العائلات والأطفال والمراهقين والمهنيين الذين يتعاملون مع قضايا التربية والتّعليم.
تم تشخيصي مؤخرًا باضطراب القلق بدرجة خفيفة، وأصبحت أكثر اهتمامًا بالموضوع. كما أثّر بي الموضوع عندما شارك مرشد وصديق لي عن تجربته الخاصّة مع الاحتياجات الخاصّة. اسمحوا لي بمشاركة بعض الأفكار وربّما تقديم موضوع أعتقد أنّه يجب مناقشته في كنائسنا ومجتمعاتنا.
وفقًا لمعجم مريم وابستر الإنجليزي، يتم تعريف الإعاقة أو الحاجّة الخاصّة أنّها “حالة جسديّة أو عقليّة أو معرفيّة أو تطويريّة تُضعف أو تتداخل مع أو تحدّ من قدرة الشخص على الانخراط في مهام أو إجراءات معيّنة أو المشاركة في الأنشطة والتفاعلات اليوميّة المعتادة.” غالبًا ما تجعل الاحتياجات الخاصّة الشخص عرضة للاستضعاف وحتّى التهميش لا سيّما عندما يُقاس الأشخاص وفقًا لمستوى معيّن من الأداء القياسي. يؤدّي الاحتياج الخاص أحيانًا إلى الإقصاء الاجتماعي إلى حدّ ما، بينما في أحيان أخرى لا يؤدّي إلى ذلك. على سبيل المثال، إذا كنت تعاني من عسر القراءة منذ 800 عامٍ في الماضي، فمن المرجح ألّا يؤدي هذا الضعف إلى الإقصاء لأنّ معظم الناس كانوا أمّيين. يمكن أن يؤثّر الاحتياج الخاص على إحساس الشخص بالقيمة والكفاءة. دعونا نحاول النظر إلى الاحتياجات الخاصّة من منظور جديد:
أولاً، من المهم أن نكتشف (وأحيانًا نعترف) ثم نعتنق احتياجاتنا الخاصّة. إذا كنت، مثلي، تعيش في ثقافة العار والشرف، فإنّ إنكار احتياجاتك الخاصّة أسهل من مواجهتها، واتخاذ خطوة إلى الأمام، ومشاركتها مع الآخرين. الاعتراف بأنّك تعاني حاجة خاصّة أمر يتطلّب تواضعًا، لا سيّما عندما تعجز عن تحقيق إمكاناتك المتصوّرة. الإمكانات المتصوّرة هي من نتخيّل أنّنا يمكننا أن نكون إذا كان كلّ شيء في حياتنا متناسقًا بصورة تام. نحن مقصّرون دائمًا عن تحقيق إمكاناتنا المتصوّرة. ربما يشعر المرسلون الذين يحاولون تعلّم لغة جديدة في ثقافة جديدة بمدى صعوبة عدم الوصول للمستوى المرجو. والدي، الذي يحبّ القراءة، غالبًا ما يقيس نفسه بعدد الكتب التي كان بإمكانه قراءتها لو لم يكن مصابًا بـستارغاردت. سيظلّ دائمًا أقلّ من إمكاناته المتصوّرة! اعتناق احتياجاتنا الخاصّة هو الخطوة الأولى.
ثانيًا، يجب أن نتذكّر أنّ هويّتنا لا تُقاس أولاً بما نقوم به. للأسف بات التفكير في ثقافتي يميل أكثر فأكثر إلى الاعتقاد بأنّ القيام بالأشياء بصورة أقوى وأسرع هو الأفضل دائمًا. أو كما تقول الأغنية الإنجليزيّة: “اعمل بجد، اجعل الأشياء أفضل، اعمل بسرعة، فذاك يجعلنا أقوى. أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ساعة تلو ساعة”. على الرغم من أهميّة العمل الجاد، إلّا أنّني عندما أكملت مؤخرًا تدريبًا حول القيادة مع متحدّث غربي يمثل كنيسة كبرى، شعرت بالفشل إلى أنّني لن أرقى أبدًا إلى مستوى توقّعات القيادة في ضوء احتياجاتي الخاصّة الشخصيّة وربّما الاحتياجات الخاصّة الجماعيّة للكنيسة.
لم يقيس يسوع تقدمة الأرملة الفقيرة في مرقس 12 بالمقدار الذي قدّمته ولكن بمدى أمانتها؛ قرّرت أنّ القليل الذي كان لديها هو لله. يدعو إنجيل مرقس القرّاء إلى تجديد منظورهم وإعادة تقييم نظرتهم. في كتابها من أورشليم إلى إريان جايا، تكتب روث تاكر صفحة بعد صفحة عن المرسلين مثل ويليام كاري وهدسون تايلور. ما يُشار إليه عمومًا باسم “القرن العظيم للإرسالية” كان مليئًا في الواقع بالمرسلين “العظماء” الذين يعانون من احتياجات وعدم إمكانيات كثيرة. حتىّ أنّ بعضهم واجه اضطرابات نفسيّة على المستوى الشخصي وبين عائلاتهم. ومع ذلك، فقد عاشوا حياة أمينة، وهذا ما يهمّ في ملكوت الله.
ثالثًا، النظر من جديد إلى احتياجاتنا الخاصّة يعمّق علاقتنا مع الله ويجعلنا منفتحين لقوّته. هذا ما يشترك فيه بولس، الذي اختبر نعمة الله المُحبّة والقويّة أكثر عندما دعا إلى إزالة شوكته، في كورنثوس الثانية (خاصة ١٢: ٩-١٠). بعد أن تلقّى استجابة وهي “لا!”، سُرّ بولس بشوكته! كان بولس قادرًا على النظر في سرّ حالته الإنسانيّة المؤلمة، ونتيجة لذلك فقد تقبّل تمامًا من هو، بل وابتهج بأنّ الله كان له هدف من حاجته الخاصّة أو شوكته. يستخدم بولس عبارة “من أجل (ربح) المسيح”، وبذلك كان قادرًا على قبول ضعفه كفرصة “لتحلّ عليه قوّة المسيح”. يبدو بولس قانعًا بالوصول إلى قوة الله في خضم ضعفه.
رابعًا، وربّما كنتيجة طبيعيّة، عندما نخدم من الضعف والمعاناة، فإنّنا نخدم كأتباع المسيح، الله المصلوب والقائم من بين الأموات. كما قال هنري نوين، الذي أمضى سنوات في خدمة ذوي الاحتياجات العقليّة والجسديّة، في كتابه The Wounded Healer (المداوي الجريح)، “لن يُنظر إلى خدمتنا على أنّها أصلية ما لم تأتِ من قلبٍ متألّم وهو ما نتحدّث عنها. وبالتالي، لا يمكن كتابة أيّ شيء عن الخدمة دون فهم أعمق للطرق التي يمكن من خلالها للخدّام أن يجعلوا جراحهم متاحة كمصدر للشفاء”. سنحتاج إلى الثبات للذهاب إلى مجتمعاتنا الإيمانيّة بالضعف والانفتاح ودعوة الناس إلى تلك المجتمعات من أجل أن يكونوا معالجين جرحى مثل ربّنا. على نفس المنوال، يكتب نوين أيضًا عن الخادم المسيحي باعتباره الشخص الذي لديه الشجاعة لاحتضان عدم أهميته في العالم الحديث كدعوة إلهيّة تمكّنه من الدخول في تضامن عميق مع المعاناة تحت بريق النجاح ، وإظهار نور يسوع هناك.
لقد تعرّفت على مفهوم الإمكانات المتصوّرة من قبل صديقي بيل ميريفيلد. إذا كنت ترغب في التعمّق في موضوع الإيمان والاحتياجات الخاصّة، فالرجاء مشاهدة مقطع الفيديو الخاص به الذي ساعدت أفكاره في تشكيل هذه المدوّنة.
عبد هو أستاذ مساعد في الخدمة الراعويّة في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة. وهو عضو في كنيسة الناصري ويستمتع فب مشاهدة الأفلام والاستماع للموسيقى والمشي.